فصل: مسألة (قياس الحكم المعلل)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المستصفى من علم الأصول ***


الفن الثالث في كيفية استثمار الاحكام من الالفاظ والاقتباس من معقول الالفاظ بطريق القياس

ويشتمل على مقدمتين وأربعة أبواب الأول‏:‏ في إثبات أصل القياس على منكريه‏.‏ الثاني‏:‏ في طريق إثبات العلة‏.‏ الثالث‏:‏ في قياس الشبه‏.‏ الرابع‏:‏ في أركان القياس، وهي أربعة‏:‏ الأصل، والفرع، والعلة، والحكم، وبيان شروط كل ركن من هذه الاركان‏.‏ مقدمة في حد القياس وحده أنه جمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما عنهما، ثم إن كان الجامع موجبا للاجتماع على الحكم كان قياسا صحيحا، وإلا كان فاسدا، واسم القياس يشتمل على الصحيح والفاسد في اللغة، ولا بد في كل قياس من فرع وأصل وعلة وحكم، وليس من شرط الفرع والأصل كونهما موجودين، بل ربما يستدل بالنفي على النفي، فلذلك لم نقل حمل شئ، لان المعدوم ليس بشئ عندنا، وأبدلنا لفظ الشئ بالمعلوم ولم نقل حمل فرع على أصل، لانه ربما ينبو هذا اللفظ عن المعدوم، وإن كان لا يبعد إطلاق هذا الاسم عليه بتأويل ما، والحكم يجوز أن يكون نفيا ويجوز أن يكون إثباتا، والنفي كانتفاء الضمان والتكليف، والانتفاء أيضا يجوز أن يكون علة، فلذلك أدرجنا الجميع في الحد، ودليل صحة هذا الحد إطراده وانعكاسه، أما قول من قال في حد القياس أنه الدليل الموصل إلى الحق أو العلم الواقع بالمعلوم عن نظر أو رد غائب إلى شاهد، فبعض هذا أعم من القياس وبعضه أخص، ولا حاجة إلى الاطناب في إبطاله، وأبعد منه إطلاق الفلاسفة اسمه على تركيب مقدمتين يحصل منهما نتيجة، كقول القائل‏:‏ كل مسكر حرام، وكل نبيذ مسكر، فيلزم منه أن كل نبيذ حرام، فإن لزوم هذه النتيحه من المقدمتين لا ننكره، لكن القياس يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بنوع من المساواة، إذ تقول العرب‏:‏ لا يقاس فلان إلى فلان في عقله ونسبه وفلان يقاس إلى فلان، فهو عبارة عن معنى إضافي بين شيئين، وقال بعض الفقهاء‏:‏ القياس هو الاجتهاد، وهو خطأ، لان الاجتهاد أعم من القياس، لانه قد يكون بالنظر في العمومات ودقائق الالفاظ وسائر طرق الأدلة سوى القياس، ثم أنه لا ينبئ في عرف العلماء إلا عن بذل المجتهد وسعه في طلب الحكم، ولا يطلق إلا على من يجهد نفسه ويستفرغ الوسع، فمن حمل خردلة لا يقال اجتهد، ولا ينبئ هذا عن خصوص معنى القياس، بل عن الجهد الذي هو حال القياس فقط‏.‏ مقدمة أخرى في حصر مجاري الاجتهاد في العلل اعلم أنا نعني بالعلة في الشرعيات مناط الحكم، أي ما أضاف الشرع الحكم إليه وناطه به ونصبه علامة عليه، والاجتهاد في العلة إما أن يكون في تحقيق مناط الحكم أو في تنقيح مناط الحكم أو في تخريج مناط الحكم واستنباطه‏.‏ أما الاجتهاد في تحقيق مناط الحكم‏:‏ فلا نعرف خلافا بين الامة في جوازه مثاله الاجتهاد في تعيين الامام بالاجتهاد مع قدرة الشارع في الامام الأول على النص، وكذا تعيين الولاة والقضاة، وكذلك في تقدير المقدرات وتقدير الكفايات في نفقة القرابات، وإيجاب المثل في قيم المتلفات، وأروش الجنايات، وطلب المثل في جزاء الصيد، فإن مناط الحكم في نفقة القريب الكفاية، وذلك معلوم النص، أما أن الرطل كفاية لهذا الشخص أم لا فيدرك بالاجتهاد والتخمين، وينتظم هذا الاجتهاد بأصلين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه لا بد من الكفاية‏.‏ والثاني‏:‏ أن الرطل قدر الكفاية فيلزم منه أنه الواجب على القريب، أما الأصل الأول فمعلوم بالنص والإجماع، وأما الثاني فمعلوم بالظن، وكذلك نقول يجب في حمار الوحش بقرة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فجزاء مثل ما قتل من النعم‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 59‏)‏ فنقول‏:‏ المثل واجب، والبقرة مثل، فإذا هي الواجب، والأول معلوم بالنص وهي المثلية التي هي مناط الحكم، أما تحقق المثلية في البقرة فمعلوم بنوع من المقايسة والاجتهاد، وكذلك من أتلف فرسا فعليه ضمانه، والضمان هو المثل في القيمة، أما كونه مائة درهم مثلا في القيمة فإنما يعرف بالاجتهاد، ومن هذا القبيل الاجتهاد في القبلة وليس ذلك من القياس في شئ بل الواجب استقبال جهة القبلة وهو معلوم بالنص، أما أن هذه جهة القبلة فإنه يعلم بالاجتهاد والامارات الموجبة للظن عند تعذر اليقين، وكذلك حكم القاضي بقول الشهود ظني لكن الحكم بالصدق واجب، وهو معلوم بالنص، وقول العدل صدق معلوم بالظن وأمارات العدالة، والعدالة لا تعلم إلا بالظن فلنعبر عن هذا الجنس بتحقيق مناط الحكم، لان المناط معلوم، بنص أو إجماع لا حاجة إلى استنباطه، لكن تعذرت معرفته باليقين فاستدل عليه بإمارات ظنية، وهذا لا خلاف فيه بين الامة، وهو نوع اجتهاد، والقياس مختلف فيه، فكيف يكون هذا قياسا وكيف يكون مختلفا فيه، وهو ضرورة كل شريعة، لان التنصيص على عدالة الاشخاص وقدر كفاية كل شخص محال، فمن ينكر القياس ينكره حيث يمكن التعريف للحكم بالنص المحيط بمجاري الحكم‏.‏ الاجتهاد الثاني‏:‏ في تنقيح مناط الحكم‏:‏ وهذا أيضا يقربه أكثر منكري القياس، مثاله‏:‏ أن يضيف الشارع الحكم إلى سبب وينوطه به وتقترن به أوصاف لا مدخل لها في الاضافة، فيجب حذفها عن درجة الاعتبار حتى يتسع الحكم، مثاله‏:‏ إيجاب العتق على الاعرابي حيث أفطر في رمضان بالوقاع مع أهله، فإنا نلحق به أعرابيا آخر بقوله عليه السلام‏:‏ حكمي على الواحد حكمي على الجماعة أو بالإجماع على أن التكليف يعم الاشخاص، ولكنا نلحق التركي والعجمي به، لانا نعلم أن مناط الحكم وقاع مكلف لا وقاع أعرابي، ونلحق به من أفطر في رمضان آخر، لانا نعلم أن المناط هتك حرمة رمضان لا حرمة ذلك الرمضان، بل نلحق به يوما آخر من ذلك الرمضان، ولو وطئ أمته أوجبنا عليه الكفارة، لانا نعلم أن كون الموطوءة منكوحة لا مدخل له في هذا الحكم بل يلحق به الزنا، لانه أشد في هتك الحرمة، إلا أن هذه إلحاقات معلومة تنبئ على تنقيح مناط الحكم بحذف ما علم بعادة الشرع في موارده ومصادره في أحكامه أنه لا مدخل له في التأثير، وقد يكون حذف بعض الاوصاف مظنونا فينقدح الخلاف فيه، كإيجاب الكفارة بالاكل والشرب إذ يمكن أن يقال‏:‏ مناط الكفارة كونه مفسدا للصوم المحترم والجماع آلة الافساد، كما أن مناط القصاص في القتل بالسيف كونه مزهقا روحا محترمة، والسيف آلة فيلحق به السكين والرمح والمثقل، فكذلك الطعام والشراب آلة، ويمكن أن يقال‏:‏ الجماع مما لا تنزجر النفس عنه عند هيجان شهوته لمجرد وازع الدين، فيحتاج فيه إلى كفارة وازعة، بخلاف الاكل، وهذا محتمل، والمقصود أن هذا تنقيح المناط بعد أن عرف المناط بالنص لا بالاستنباط، ولذلك أقر به أكثر منكري القياس، بل قال أبو حنيفة رحمه الله‏:‏ لا قياس في الكفارات وأثبت هذا النمط من التصرف وسماه استدلالا، فمن جحد هذا الجنس من منكري القياس وأصحاب الظاهر لم يخف فساد كلامه‏.‏ الاجتهاد الثالث في تخريج مناط الحكم واستنباطه مثاله‏:‏ أن يحكم بتحريم في محل ولا يذكر إلا الحكم والمحل، ولا يتعرض لمناط الحكم وعلته، كتحريم شرب الخمر والربا في البر، فنحن نستنبط المناط بالرأي والنظر فنقول‏:‏ حرمه لكونه مسكرا، وهو العلة، ونقيس عليه النبيذ، وحرم الربا في البر لكونه مطعوما ونقيس عليه الارز والزبيب، ويوجب العشر في البر فنقول‏:‏ أوجبه لكونه قوتا‏.‏ فنلحق به الاقوات، أو لكونه نبات الارض وفائدتها، فنلحق به الخضراوات وأنواع النبات، فهذا هو الاجتهاد القياسي الذي عظم الخلاف فيه وأنكره أهل الظاهر وطائفة من معتزلة بغداد وجميع الشيعة، والعلة المستنبطة أيضا عندنا لا يجوز التحكم بها بل قد تعلم بالايماء وإشارة النص فتلحق بالمنصوص وقد تعلم بالسير حيث يقوم دليل على وجوب التعليل، وتنحصر الاقسام في ثلاثة مثلا، ويبطل قسمان فيتعين الثالث، فتكون العلة ثابتة بنوع من الاستدلال، فلا تفارق تحقيق المناط وتنقيح المناط، وقد يقوم الدليل على كون الوصف المستنبط مؤثرا بالإجماع فيلحق به ما لا يفارقه إلا فيما لا مدخل له في التأثير، كقولنا الصغير يولي عليه في ماله لصغره، فيلحق بالمال البضع، إذ ثبت بالإجماع تأثير الصغر في جلب الحكم، ولا يفارق البضع المال في معنى مؤثر في الحكم، فكل ذلك استدلال قريب من القسمين الأولين، والقسم الأول متفق عليه، والثاني مسلم من الاكثرين‏.‏ هذا شرح المقدمتين ولنشرع الآن في الابواب‏.‏

الباب الأول في إثبات القياس على منكريه

وقد قالت الشيعة وبعض المعتزلة‏:‏ يستحيل التعبد بالقياس عقلا، وقال قوم في مقابلتهم‏:‏ يجب التعبد به عقلا، وقال قوم‏:‏ لا حكم للعقل فيه بإحالة ولا إيجاب ولكنه في مظنة الجواز، ثم اختلفوا في وقوعه، فأنكر أهل الظاهر وقوعه، بل ادعوا حظر الشرع له والذي ذهب إليه الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم وجماهير الفقهاء والمتكلمين بعدهم رحمهم الله وقوع التعبد به شرعا، ففرق المبطلة له ثلاث‏:‏ المحيل له عقلا، والموجب له عقلا والحاظر له شرعا، فنفرض على كل فريق مسألة، ونبطل عليهم خيالهم ونقول للمحيل للتعبد به عقلا‏:‏ بم عرفت إحالته، بضرورة أو نظر‏؟‏ ولا سبيل إلى دعوى شئ من ذلك ولهم مسالك‏.‏ الأول‏:‏ قولهم كلما نصب الله تعالى دليلا قاطعا، على معرفته فلا نحيل التعبد به، إنما نحيل التعبد بما لا سبيل إلى معرفته، لان رحم الظن جهل، ولا صلاح للخلق في إقحامهم ورطة الجهل حتى يتخبطوا فيه، ويحكموا بما لا يتحققون أنه حكم الله، بل يجوز أنه نقيض حكم الله تعالى فهذا أصلان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الصلاح واجب على الله تعالى‏.‏ والثاني‏:‏ أنه لا صلاح في التعبد بالقياس، ففي أيهما النزاع‏؟‏‏.‏ والجواب‏:‏ إننا ننازعكم في الأصلين جميعا، أما إيجاب صلاح العباد على الله تعالى فقد أبطلناه، فلا نسلم، وإن سلمنا فقد جوز التعبد بالقياس، بعض من أوجب الصلاح، وقال‏:‏ لعل الله تعالى علم لطفا بعباده في الرد إلى القياس لتحمل كلفة الاجتهاد وكد القلب والعقل في الاستنباط لنيل الخيرات الجزيلة‏:‏ ‏{‏يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات‏}‏ ‏(‏المجادلة‏:‏ 11‏)‏ وتجشم القلب بالفكر لا يتقاعد عن تجشم البدن بالعبادات، فإن قيل‏:‏ كان الشارع قادرا على أن يكفيهم بالتنصيص كلمات الظن، وذلك أصلح، قلنا‏:‏ من أوجب الصلاح لا يوجب الأصلح، ثم لعل الله تعالى علم من عباده أنه لو نص على جميع التكاليف لبقوا وعصوا، وإذا فرض إلى رأيهم انبعث حرصهم لاتباع اجتهادهم وظنونهم، ثم نقول‏:‏ أليس قد أقحمهم ورطة الجهل في الحكم بقول الشاهدين والاستدلال على القبلة وتقدير المثل والكفايات في النفاقات والجنايات وكل ذلك ظن وتخمين، فإن قيل‏:‏ ما تعبد القاضي بصدق الشاهدين فإن ذلك لا يقدر عليه، بل أوجب الحكم عليه عند ظن الصدق، وأوجب داستقبال جهة يظن أن القبلة فيها لا استقبال القبلة، قلنا‏:‏ وكذلك تعبد المجتهد بأن يحكم بشهادة الأصل للفرع إذا غلب على ظنه دلالته عليه وشهادته له، ولا تكليف عليه في تحقيق تلك الشهادة، بل هو مكلف بظنه، وإن فسدت الشهادة كما كلف الحاكم الحكم بظنه، وإن كان كذب الشهود ممكنا ولا فرق، ولذلك نقول‏:‏ كل مجتهد مصيب، والخطأ محال إذ يستحيل أن يكلف إصابة ما لم ينصب عليه دليل قاطع وما ذكروه إنما يشكل على من يقول المصيب واحد، وتحقيقه أنه لو قال الشارع‏:‏ حرمت كل مسكر، أو حرمت الخمر لكونه مسكرا، لم يكن التعبد به ممتنعا، فلو قال‏:‏ متى حرمت الربا في البر فأسيروا حاله، وقسموا صفاته، فإن غلب على ظنكم بإمارة أني حرمته لكونه قوتا، وحرمت الخمر لكونه مسكرا، فقد حرمت عليكم كل قوت وكل مسكر، ومن غلب على ظنه أني حرمته لكونه مكيلا فقد حرمت عليه كل مكيل، لم يكن بين هذا وبين قوله إذا اشتبهت عليكم القبلة، فكل جهة غلب على ظنكم أن القبلة فيها فاستقبلوها فرق حتى لو غلب جهتان على ظن رجلين فيكون كل واحد مصيبا، وكما لم يمتنع أن يلحق ظن القبلة بمشاهدتها، وظن صدق العدل بتحقيق صدق الرسول المؤيد بالمعجزة وصدق الراوي الواحد بتحقيق صدق التواتر، فكذلك لا يمتنع أن يلحق ظن ارتباط الحكم بمناط بتحقيق ارتباطه به بالنص الصريح، فإن قيل‏:‏ فأي مصلحة في تحريم الربا في البر لكونه مكيلا أو قوتا أو مطعوما قلنا‏:‏ ومن أوجب الأصلح لم يشترط كون المصلحة مكشوفة للعباد، وأي مصلحة في تقدير المغرب ثلاث ركعات والصبح بركعتين، وفي تقدير الحدود والكفارات ونصب الزكوات بمقادير مختلفة لكن علم الله تعالى في التعبد لطفا استأثر بعلمه يقرب العباد بسببه من الطاعة، ويبعدون به عن المعصية وأسباب الشقاوة، حتى لو أضاف الحكم إلى اسم مجرد ثبت واعتقدنا فيه لطفا ندركه فكيف لا يتصور ذلك في الاوصاف‏؟‏ الشبهة الثانية‏:‏ قولهم لا يستقيم قياس إلا بعلة، والعلة ما توجب الحكم لذاتها، وعلل الشرع ليست كذلك، فكيف يستقيم التعليل مع أن ما نصب علة للتحريم يجوز أن يكون علة للتحليل‏؟‏ قلنا‏:‏ لا معنى لعلة الحكم إلا علامة منصوبة على الحكم، ويجوز أن ينصب الشرع السكر علامة لتحريم الخمر ويقول‏:‏ اتبعوا هذه العلامة واجتنبوا كل مسكر، ويجوز أن ينصبه علامة للتحليل أيضا، ويجوز أن يقول‏:‏ من ظن أنه علامة للتحليل فقد حللت له كل مسكر ومن ظن أنه علامة للتحريم فقد حرمت عليه كل مسكر حتى يختلف المجتهدون في هذه الظنون، وكلهم مصيبون‏.‏ الشبهة الثالثة‏:‏ قولهم حكم الله تعالى خبره، ويعرف ذلك بتوقيف، فإذا لم يخبر الله عن حكم الزبيب فكيف يقال‏:‏ حكم الله في الزبيب التحريم والنص، لم ينطق إلا بالاشياء الستة، قلنا‏:‏ إذا قال الله تعالى‏:‏ قد تعبدتكم بالقياس فإذا ظننتم أني حرمت الربا في البر لكونه مطعوما فقيسوا عليه كل مطعوم، فيكون هذا خبرا عن حكم الزبيب، وما لم يقم دليل على التعبد بالقياس لا يجوز القياس عندنا فالقياس عندنا حكم بالتوقيف المحض كما قررناه في كتاب أساس القياس، لكن هذا النص بعينه وإن لم يرد فقد دل إجماع الصحابة على القياس، على أنهم ما فعلوا ذلك إلا وقد فهموا من الشارع هذا المعنى بألفاظ وقرائن وإن لم ينقلوها إلينا‏.‏ الشبهة الرابعة‏:‏ قولهم إذا اشتبهت رضيعة بعشر أجنبيات أو ميتة بعشر مذكيات لم يجز مد اليد إلى واحدة، وإن وجدت علامات لامكان الخطأ والخطأ ممكن في كل اجتهاد وقياس، فكيف يجوز الهجوم مع إمكان الخطأ، ولا يلزم هذا على الاجتهاد في القبلة، وعدالة الشاهد والقاضي والامام ومتولي الاوقاف لمعنيين‏.‏ أحدهما‏:‏ أن ذلك حكم في الاشخاص والاعيان ولا نهاية لها، ولا يمكن تعريفها بالنص‏.‏ والثاني‏:‏ أن الخطأ فيه غير ممكن، لانهم متعبدون بظنونهم لا بصدق الشهود، قلنا‏:‏ وكذلك نحن نعترف بأنه لا خلاص عن هذا الاشكال إلا بتصويب كل مجتهد، وأن المجتهد وإن خالف النص فهو مصيب إذ لم يكلف إلا بما بلغه، فالخطأ غير ممكن في حقه، أما من ذهب إلى أن المصيب واحد فيلزمه هذا الاشكال، وأما اختلاط الرضيعة بأجنبيات فلسنا نسلم أن المانع مجرد، إمكان الخطأ، فإنه لو شك في رضاع امرأة حل له نكاحها، والخطأ ممكن، لكن الشرع إنما أباح نكاح امرأة يعلم أنها أجنبية بيقين، وحكم أن اليقين لا يندفع بالشك الطارئ، أما إذا تعارض يقينان وهو يقين التحريم والتحليل، فليس ذلك في معنى اليقين الصافي عن المعارضة، ولا في معنى اليقين الذي لم يعارضه إلا الشك المجرد فلم يلحق به اتباعا لموجب الدليل، ولو ورد الشرع بالرخصة فيه لم يكن ذلك ممتنعا‏.‏

مسألة ‏(‏القائلين بوجوب القياس عقلا‏)‏

الذين ذهبوا إلى أن التعبد بالقياس واجب عقلا متحكمون فمطالبون بالدليل ولهم شبهتان‏:‏ الأولى‏:‏ أن الانبياء مأمورون بتعميم الحكم في كل صورة، والصور لا نهاية لها فكيف تحيط النصوص بها، فيجب ردهم إلى الاجتهاد ضرورة، فنقول‏:‏ هذا فاسد لان الحكم في الاشخاص التي ليست متناهية، إنما يتم بمقدمتين كلية، كقولنا‏:‏ كل مطعوم ربوي، وجزئية كقولنا‏:‏ هذا النبات مطعوم، أو الزعفران مطعوم، وكقولنا‏:‏ كل مسكر حرام وهذا الشراب بعينه مسكر، وكل عدل مصدق، وزيد عدل، وكل زان مرجوم، وماعز قد زنى فهو إذا مرجوم، والمقدمة الجزئية هي التي لا تتناهى مجاريها فيضطر فيها إلى الاجتهاد لا محالة، وهو اجتهاد في تحقيق مناط الحكم، وليس ذلك بقياس، أما المقدمة الكلية فتشتمل على مناط الحكم وروابطه، وذلك يمكن التنصيص عليه بالروابط الكلية، كقوله‏:‏ كل مطعوم ربوي، بدلا عن قوله‏:‏ لا تبيعوا البر بالبر، وكقوله‏:‏ كل مسكر حرام، بدلا عن قوله‏:‏ حرمت الخمر، وإذا أتى بهذه الالفاظ العامة وقع الاستغناء عن استنباط مناط الحكم واستغنى عن القياس، هذا مع أنه يمكن منازعة هذا القائل بأنه لم يجب استيعاب جميع الصور بالحكم ولم يستحيل خلو بعضها عن الحكم فإنه في المقدمة الجزئية أيضا يمكن أن يراد فيه إلى اليقين فيقال‏:‏ من تيقنتم صدقة، وما تيقنتم كونه مطعوما أو مسكرا فاحكموا به، وما لم تتيقنوا به فاتركوه على حكم الأصل، إلا أن هذا لا يجري في جميع الجزئيات، لانه لا سبيل إلى تيقين صدق الشهود وعدالة القضاة والولاة، ولا سبيل إلى تقدير متيقن في كفاية الاقارب وأروش المتلفات، فإن التكثير فيه إلى حصول اليقين ربما يضر بجانب الموجب عليه كما يضر التقليل بجانب الموجب له، فالاجتهاد في تحقيق مناط الحكم ضرورة، أما في تخريج المناط وتنقيح المناط فلا‏.‏ الثانية‏:‏ قولهم إن العقل كما دل على العلل العقلية دل على العلل الشرعية، فإنها تدرك بالعقل، ومناسبة الحكم مناسبة عقلية مصلحة يتقاضى العقل ورود الشرع بها، وهذا فاسد، لان القياس إنما يتصور لخصوص النص ببعض مجاري الحكم، وكل حكم قدر خصوصه، فتعميمه ممكن، فلو عم لم يبق للقياس مجال، وما ذكروه من قياس العلة الشرعية بالعلة العقلية خطأ، لان من العلل ما لا يناسب، وما تناسب لا توجب الحكم لذاتها، بل يجوز أ يتخلف الحكم عنها فيجوز أن لا يحرم المسكر وأن لا يوجب الحد بالزنا والسرقة، وكذا سائر العلل والاسباب‏.‏ مسألة ‏(‏الرد على منكري الاجتهاد‏)‏ في الرد على من حسم سبيل الاجتهاد بالظن، ولم يجوز الحكم في الشرع إلا بدليل قاطع، كالنص وما يجري مجراه، فأما الحكم بالرأي والاجتهاد فمنعوه وزعموا أنه لا دليل عليه، وإنما الرد عليهم بإظهار الدليل، وما عندي أن أحدا ينازع في الاجتهاد في تحقيق مناط الحكم، فلا تصرف الزكاة إلا إلى فقير ويعلم فقره بأمارة ظنية، ولا يحكم إلا بقول عدل، وتعرف عدالته بالظن، وكذلك الاجتهاد في الوقت والقبلة وأروش الجنايات وكفاية القريب، وإن اعتذروا عن جميع ذلك بأن كل عبد مأمور باتباع ظنه في ذلك موجود قطعا، والحكم عند الظن واجب قطعا، فنحن كذلك نقول في سائر الاجتهادات، وإن اعتذروا عن ذلك بأن ذلك ضرورة، فإنما نزاعنا في معرفة مناط الاحكام بالرأي والاجتهاد، فيستدل على ذلك بإجماع الصحابة على الحكم بالرأي والاجتهاد في كل واقعة وقعت لهم ولم يجدوا فيها نصا، وهذا مما تواتر إلينا عنهم تواترا لا شك فيه، فننقل من ذلك بعضه وإن لم يمكن نقل الجميع، فمن ذلك حكم الصحابة بإمامة أبي بكر رضي الله عنه بالاجتهاد مع انتفاء النص، ونعلم قطعا بطلان دعوى النص عليه وعلى علي وعلى العباس، إذ لو كان لنقل ولتمسك به المنصوص عليه ولم يبق للمشورة مجال حتى ألقى عمر رضي الله عنه الشورى بين ستة وفيهم علي رضي الله عنه، فلو كان منصوصا عليه وقد استصلحه له فلم تردد بينه وبين غيره، ومن ذلك قياسهم العهد على العقد، إذ ورد في الاخبار عقد الامامة بالبيعة، ولم ينص على واحد، وأبو بكر عهد إلى عمر خاصة ولم يرد فيه نص، ولكن قاسوا تعيين الامام على تعيين الامة لعقد البيعة، فكتب أبو بكر‏:‏ هذا ما عهد أبو بكر، ولم يعترض عليه أحد، ومن ذلك رجوعهم إلى اجتهاد أبي بكر ورأيه في قتال ما نعى الزكاة، حتى قال عمر‏:‏ فكيف تقاتلهم‏؟‏ وقد قال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فقال أبو بكر‏:‏ ألم يقل إلا بحقها‏؟‏ فمن حقها إيتاء الزكاة، كما أن من حقها إقام الصلاة، فلا أفرق بين ما جمع الله، والله لو منعوني عقالا مما أعطوا النبي عليه السلام‏؟‏ لقاتلتهم عليه، وبنو حنيفة الممتنعون من الزكاة جاؤوا إلى أبي بكر رضي الله عنه متمسكين بدليل أصحاب الظاهر في اتباع النص وقالوا‏:‏ إنما أمر النبي عليه السلام بأخذ الصدقات، لان صلاته كانت سكنا لنا، وصلاتك ليست بسكن لنا، إذ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم‏}‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 301‏)‏ فأوجبوا تخصيص الحكم بمحل النص، وقاس أبو بكر والصحابة خليفة الرسول على الرسول، إذ الرسول إنما كان يأخذ للفقراء لا لحق نفسه والخليفة نائب في استيفاء الحقوق، ومن ذلك ما أجمعوا عليه من طريق الاجتهاد بعد طول التوقف فيه، ككتب المصحف، وجمع القرآن بين الدفتين، فاقترح عمر ذلك أولا على أبي بكر فقال‏:‏ كيف أفعل ما لم يفعله النبي عليه السلام‏؟‏ حتى شرح الله له صدر أبي بكر، وكذلك جمعه عثمان على ترتيب واحد بعد أن كثرت المصاحف مختلفة الترتيب، ومن ذلك إجماعهم على الاجتهاد في مسألة الجد والاخوة على وجوه مختلفة، مع قطعهم بأنه لا نص في المسألة التي قد أجمعوا على الاجتهاد فيها، وننقل الآن من أخبارهم ما يدل على قولهم بالرأي‏:‏ فمن ذلك قول أبي بكر لما سئل عن الكلالة‏:‏ أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان، الكلالة ما عدا الوالد والولد، ومن ذلك أنه ورث أم الام دون أم الاب، فقال له بعض الانصار‏:‏ لقد ورثت امرأة من ميت، لو كانت هي الميتة لم يرثها وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت، فرجع إلى الاشتراك بينهما في السدس‏.‏ ومن ذلك حكمه بالرأي في التسوية في العطاء، فقال عمر‏:‏ لا نجعل من ترك دياره وأمواله مهاجرا إلى النبي عليه السلام كمن دخل في الاسلام كرها فقال أبو بكر‏:‏ إنما أسلموا الله وأجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ‏.‏ ولما انتهت الخلافة إلى عمر فرق بينهم ووزع على تفاوت درجاتهم، واجتهاد أبي بكر أن العطاء إذا لم يكن جزاء على طاعتهم لم يختلف باختلافها، واجتهاد عمر أنه لولا الاسلام لما استحقوها، فيجوز أن يختلفوا، وأن يجعل معيشة العالم أوسع من معيشة الجاهل، ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه أقضي في الجد برأيي وأقول فيه برأيي، وقضى بآراء مختلفة، وقوله‏:‏ من أحب أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض في الجد برأيه، أي الرأي العاري عن الحجة، وقال لما سمع الحديث في الجنين‏:‏ لولا هذا لقضينا فيه برأينا، ولما قيل في مسألة المشتركة‏:‏ هب أن أبانا كان حمارا، ألسنا من أم واحدة‏؟‏ أشرك بينهم بهذا الرأي‏.‏ ومن ذلك أنه قيل لعمر‏:‏ إن سمرة أخذ من تجار اليهود الخمر في العشور وخللها وباعها، فقال‏:‏ قاتل الله سمرة، أما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها فقاس عمر الخمر على الشحم، وأن تحريمها تحريم لثمنها‏.‏ وكذلك جلد أبا بكرة، لما لم يكمل نصاب الشهادة مع أنه جاء شاهدا في مجلس الحكم لا قاذفا لكنه قاسه على القاذف، وقال علي رضي الله عنه اجتماع رأيي ورأي عمر في أم الولد أن لا تباع، ورأيت الآن بيعهن، فهو تصريح بالقول بالرأي‏.‏ وكذلك عهد عمر إلى أبي موسى الاشعري‏:‏ أعرف الاشباه والامثال، ثم قس الامور برأيك، ومن ذلك قول عثمان لعمر رضي الله عنهما في بعض الاحكام إن اتبعت رأيك فرأيك أسد، وإن تتبع رأي من قبلك فنعم الرأي كان فلو كان في المسألة دليل قاطع لما صوبهما جمعا‏.‏ وقال عثمان وعلي رضي الله عنهما في الجمع بين الاختين‏:‏ المملوكتين‏:‏ أحلتهما آية وحرمتهما آية، وقضى عثمان بتوريث المبتوتة بالرأي‏.‏ ومن ذلك قول علي رضي الله عنه في حد الشرب، من شرب هذي ومن هذي افترى، فأرى عليه حد المفتري، وهو قياس للشرب على القذف، لانه مظنة القذف التفاتا إلى أن الشرع قد ينزل مظنة الشئ منزلته، كما أنزل النوم منزلة الحدث والوطئ في إيجاب العدة منزلة حقيقة شغل الرحم ونظائره، ومن ذلك قول ابن مسعود في المفوضة برأيه بعد أن استمهل شهرا‏.‏ وكان ابن مسعود يوصي من يلي القضاء بالرأي ويقول‏:‏ الامر في القضاء بالكتاب والسنة وقضايا الصالحين فإن لم يكن شئ من ذلك فاجتهد رأيك‏.‏ ومن ذلك قول معاذ بن جبل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أجتهد رأيي عند فقد الكتاب والسنة فزكاة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ومن ذلك قول ابن عباس لمن قضى بتفاوت الدية في الاسنان لاختلاف منافعها، كيف لم يعتبروا بالاصابع وقال في العول‏:‏ من شاء باهلته الحديث، ولما سمع نهيه عن بيع الطعام قبل أن يقبض قال‏:‏ لا أحسب كل شئ إلا مثله، وقال في المتطوع‏:‏ إذا بدا له الافطار أنه كالمتبرع أراد التصدق بمال فتصدق ببعضه ثم بدا له‏.‏ ومن ذلك قول زيد في الفرائض والحجب وميراث الجد، ولما ورث زيد ثلث ما بقي في مسألة زوج وأبوين قال ابن عباس‏:‏ أين وجدت في كتاب الله ثلث ما بقي‏؟‏ فقال زيد‏:‏ أقول برأيي وتقول برأيك، فهذا وأمثاله مما لا يدخل تحت الحصر مشهور، وما من مفت إلا وقد قال بالرأي ومن لم يقل فلانه أغناه غيره عن الاجتهاد ولم يعترض عليهم في الرأي فانقعد اجماع قاطع على جواز القول بالرأي‏.‏ وجه الاستدلال‏:‏ أنه في هذه المسائل التي اختلفوا واجتهدوا فيها، فلا يخلوا إما أن يكون فيها دليل قاطع لله على حكم معين أو لم يكن، فإن لم يكن وقد حكموا بما ليس بقاطع فقد ثبت الاجتهاد، وإن كان فمحال، إذ كان يجب على من عرف الدليل القاطع أن لا يكتمه، ولو أظهره وكان قاطعا لما خالفه أحد، ولو خالفه لوجب تفسيقه وتأثيمه ونسبته إلى البدعة والضلال ولوجب منعه من الفتوى ومنع العامة من تقليده، هذا أقل ما يجب فيه إن لم يجب قتله، وقد قال به قوم، وإن كنا لا نراه، وعلى الجملة‏:‏ فلو كان فيها دليل قاطع لكان المخالف فاسقا، وكان المحق بالسكوت عن المخالف، وترك دعوته إلى الحق فاسقا، فيعم الفسق جميع الصحابة بل يعم العباد جميعهم، وليس هذا كالعقليات، فإن أدلتها غامضة قد لا يدركها بعض الخلق فلا يكون معاندا، أما القاطع الشرعي فهو نص ظاهر، وقد قال أهل الظاهر‏:‏ إنما يحكم بنص منطوق به أو بدليل ظاهر فيما ليس منطوقا به لا يحتمل التأويل، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وورثه أبواه فلامه الثلث‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 11‏)‏ فمعقول هذا أن لابيه الثلثين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسعوا إلى ذكر الله‏}‏ ‏(‏الجمعة‏:‏ 9‏)‏ فمعقولة تحريم التجارة والجلوس في البيت، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تظلمون فتيلا‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 77‏)‏ و ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره‏}‏ ‏(‏الزلزلة‏:‏ 7‏)‏ و ‏{‏فلا تقل لهما أف‏}‏ ‏(‏الاسراء‏:‏ 32‏)‏ فلم يرخص في الحكم في المسكوت عنه إلا في هذا الجنس، ولا يخفى هذا على عامي، فكيف خفي على الصحابة رضي الله عنهم مع جلالة قدرهم حتى نشأ الخلاف بينهم في المسائل، هذا تمهيد الدليل وتمامه بدفع الاعتراضات، وقد يعترض الخصم عليه تارة بإنكار كون الإجماع حجة، وهو قول النظام، وقد فرغنا من إثباته، وتارة بإنكار تمام الإجماع في القياس، من حيث أن ما ذكرناه منقول عن بعضهم، وليس للباقين إلا السكوت، وقد نقلوا عن بعضهم إنكار الرأي، وتارة يسلمون السكوت، لكن حملوه على المجاملة في ترك الاعتراض، لا على الموافقة في الرأي، وتارة يقرون بالإجماع، ولا يكترثون بتفسيق الصحابة، وتارة يردون رأيهم إلى العمومات، ومقتضى الالفاظ وتحقيق مناط الحكم دون القيا س، فهذه مدارك اعتراضتهم وهي خمسة‏.‏ الاعتراض الأول‏:‏ قال الجاحظ حكاية عن النظا‏:‏ إن الصحابة لو لزموا العمل بما أمروا به ولم يتكلفوا ما كفوا القول فيه من أعمال الرأي والقياس لم يقع بينهم التهارج والخلاف، ولم يسفكوا الدماء، لكن لما عدلوا عما كلفوا وتخيروا وتآمروا وتكلفوا القول بالرأي جعلوا الخلاف طريقا، وتورطوا فيما كان بينهم من القتل والقتال، وكذلك الرافضة بأسرهم زعموا أن السلف بأسرهم تآمروا وغصبوا الحق أهله وعدلوا عن طاعة الامام المعصوم المحيط بجميع النصوص المحيطة بالاحكام إلى القيامة، فتورطوا فيما شجر بينهم من الخلاف، وهذا اعتراض من عجز عن إنكار اتفاقهم على الرأي، ففسق وضل ونسبهم إلى الصلال ويدل على فساد قوله ما دل على أن الامة لا تجتمع على الخطأ، وما دل على منصب الصحابة رضوان الله عليهم من ثناء القرآن والاخبار عليهم، كما تتركز في كتاب الامامة وكيف يعتقد العاقل القدح فمن أثنى الله ورسوله عليهم بقول مبتدع مثل النظام‏؟‏ الاعتراض الثاني‏:‏ قولهم لا يصح الرأي والقياس إلا من بعضهم وكذلك السكوت لا يصح إلا من بعضهم، فإن فيهم من لم يخض في القياس، وفيهم من لم يسكت عن الاعتراض، قال النظام فيما حكاه الجاحظ عنه إنه لم يخض في القياس إلا نفر يسير من قدمائهم، كأبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل ونفر يسير من أحداثهم، كابن مسعود وابن عباس وابن الزبير، ثم شرع في ثلب العبادلة وقال‏:‏ كأنهم كانوا أعرف بأحوال النبي عليه السلام من آبائهم، وأثنى على العباس والزبير، إذ تركا القول بالرأي ولم يشرعا، وقال الداودية‏:‏ لا نسلم سكوت جميعهم عن إنكار الرأي والتخطئة فيه، إذ قال أبو بكر‏:‏ أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي، وقال‏:‏ أقول في الكلالة برأيي، فإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، وقال علي لعمر رضي الله عنهما في قصة الجنين‏:‏ إن اجتهدوا فقد أخطأوا، وإن لم يجتهدوا فقد غشوا، وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ أخبروا زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب لفتواه بالرأي في مسألة العينة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ من شاء باهلته إن الله لم يجعل في المال النصف والثلثين، وقال‏:‏ ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الاب أبا، وقال ابن مسعود في مسألة المفوضة‏:‏ إن يك خطأ فمني ومن الشيطان، وقال عمر‏:‏ إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الاحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا‏.‏ وقال علي وعثمان رضي الله عنهما‏:‏ لو كان الدين بالرأي لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره، وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ اتهموا الرأي على الدين، فإن الرأي منا تكلف وظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، وقال أيضا‏:‏ إن قوما يفتون بآرائهم، ولو نزل القرآن لنزل بخلاف ما يفتون، وقال ابن مسعود‏:‏ قراؤكم وصلحاؤكم يذهبون، ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون ما لم يكن بما كان، وقال أيضا‏:‏ إن حكمتم في دينكم بالرأي أحللتم كثيرا مما حرمه الله، وحرمتم كثيرا مما أحله الله، وقال ابن عباس‏:‏ إن الله لم يجعل لاحد أن يحكم في دينه برأيه، وقال الله تعالى لنبيه عليه السلام‏:‏ ‏{‏لتحكم بين الناس بما أراك الله‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 501‏)‏ ولم يقل‏:‏ بما رأيت، وقال‏:‏ إياكم والمقاييس، فما عبدت الشمس إلا بالمقاييس‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ ذروني من أرأيت وأرأيت، وكذلك أنكر التابعون القياس‏.‏ قال الشعبي‏:‏ ما أخبروك عن أصحاب أحمد فأقبله، وما أخبروك عن رأيهم فألقه في الجش أن السنة لم توضع بالمقاييس، وقال مسروق بن الاجدع‏:‏ لا أقيس شيئا بشئ أخاف أن تزل قدم بعد ثبوتها والجواب من أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أنا بينا بالقواطع من جميع الصحابة الاجتهاد والقول بالرأي والسكوت عن القائلين به، وثبت ذلك بالتواتر في وقائع مشهورة، كميراث الجد والاخوة وتعيين الامام بالبيعة، وجمع المصحف، والعهد إلى عمر الخلافة وما لم يتواتر كذلك فقد صح من آحاد الوقائع بروايات صحيحة لا ينكرها أحد من الامة ما أورث علما ضروريا بقولهم بالرأي، وعرف ذلك ضرورة كما عرف سخاء حاتم وشجاعة علي، فجاوز الامر حدا يمكن التشكك في حكمهم بالاجتهاد، وما نقلوه بخلافه، فأكثرها مقاطيع ومروية عن غير ثبت، وهي بعينها معارضة برواية صحيحة عن صاحبها بنقيضه، فكيف يترك المعلوم ضرورة بما ليس مثله، ولو تساوت في الصحة لوجب إطراح جميعها والرجوع إلى ما تواتر من مشاورة الصحابة واجتهادهم‏.‏ الثاني‏:‏ أنه لو صحت هذه الروايات وتواترت أيضا لوجب الجمع بينها وبين المشهور من اجتهاداتهم، فيحمل ما أنكروه على الرأي المخالف للنص أو الرأي الصادر عن الجهل الذي يصدر ممن ليس أهلا للاجتهاد، أو وضع الرأي في غير محله والرأي الفاسد الذي لا يشهد له أصل ويرجع إلى محض الاستحسان ووضع الشرع ابتداء من غير نسخ على منوال سابق، وفي ألفاظ روايتهم ما يدل عليه إذ قال اتخذ الناس رؤساء جهالا، وقال‏:‏ لو قالوا بالرأي لحرموا الحلال وأحلوا الحرام، فإذا القائلون بالقياس مقرون بإبطال أنواع من الرأي والقياس والمنكرون للقياس‏:‏ لا يقرون بصحة شئ منه أصلا، ونحن نقر بفساد أنواع من الرأي والقياس، كقياس أصحاب الظاهر، إذا قالوا‏:‏ الاصول لا تثبت قياسا فلتكن الفروع كذلك، ولا تثبت الاصول بالظن فكذلك الفروع، وقالوا‏:‏ لو كان في الشريعة علة لكانت كالعلة العقلية، فقاسوا الشئ بما لا يشبهه، فإذا إن بطل كل قياس فليبطل قياسهم ورأيهم في إبطال القياس أيضا، وذلك يؤدي إلى إبطال المذهبين‏.‏ الاعتراض الثالث‏:‏ أن دليل الإجماع إنما تم بسكوت الباقين وإن ذلك لو كان باطلا لانكروه فنقول‏:‏ لعلهم سكتوا على سبيل المجاملة، والمصالحة خيفة من ثوران فتنة النزاع، أو سكتوا عن إظهار الدليل لخفائه، والدليل عليه أن مسائل الاصول فيها قواطع، وقد اختلف الاصوليون في صيغة الامر وصيغة العموم والمفهوم واستصحاب الحال وأفعال النبي عليه السلام، بل في أصل خبر الواحد، وأصل القياس، وأصل الإجماع وفي هذه المسائل أدلة قاطعة عندكم في النفي والاثبات، ولم ينقل عن الصحابة والتابعين التأثيم والتفسيق فيها‏.‏ والجواب‏:‏ أن حمل سكوتهم على المجاملة والمصالحة واتقاء الفتنة محال لانهم اختلفوا في المسائل وتناظروا وتحاجوا ولم يتجاملوا، ثم افترقت بهم المجالس عن اجتهادات مختلفة ولم ينكر بعضهم على بعض، ولو كان ذلك بالغا مبلغا قطعيا لبادروا إلى التأثيم والتفسيق كما فعلوا بالخوارج والروافض والقدرية وكل من عرف بقاطع فساد مذهبهم، وأما سكوتهم لخفاء الدليل فمحال، فإن قول القائل لغيرة لست شارعا ولا مؤذونا من جهة الشارع فلم تضع أحكام الله برأيك ليس كلاما خفيا عجز عن دركه الافهام، وكل من قاس بغير إذن فقد شرع، فلولا علمهم حقيقة بالاذن لكانوا ينكرون على من يسامي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضع الشرع واختراع الاحكام، وأما ما ذكروه من مسائل الاصول فليس بين الصحابة خلاف في صحة القياس ولا في خبر الواحد ولا في الإجماع، بل أجمعوا عليه وبإجماعهم تمسكنا في هذه القواعد، وأما العموم والمفهوم وصيغة الامر فقلما خاضوا في هذه المسائل بتجريد النظر فيما خوض الاصوليين، ولكن كانوا يتمسكون في مناظراتهم بالعموم والصيغة، ولم يذكروا أنا نتمسك بمجرد الصيغة من غير قرينة بل كانت القرائن المعرفة للاحكام المتقرنة بالصيغ في زمانهم غضة طرية متوافرة متظاهرة، فما جردوا النظر في هذه المسائل، كيف وقد قال بعض الفقهاء‏:‏ ليس في هذه المسائل سوى خبر الواحد وأصل القياس والإجماع أدلة قاطعة، بل هي في محل الاجتهاد، فمن سلك هذا الطريق اندفع عنه الاشكال، وإن لم يكن هذا مرضيا عند المحققين من الاصوليين، فإن هذه أصول الاحكام فلا ينبغي أن تثبت إلا بقاطع، لكن الصحابة لم يجردوا النظر فيها، وبالجملة من اعتقد في مسألة دليلا قاطعا فلا يسكت عن تعصية مخالفة، وتأثيمه كما سبق في حق الخوارج والروافض والقدرية‏.‏ الاعتراض الرابع‏:‏ قولهم إن ما ذكرتموه نقل للحكم بالظن والاجتهاد، فلعلهم عولوا فيه على صيغة عموم وصيغة أمر، واستصحاب حال ومفهوم لفظ، واستنباط معنى صيغة من حيث الوضع واللغة في جمع بين آيتين وخبرين، وصحة رد مقيد إلى مطلق، وبناء عام على خاص وترجيح خبر على خبر وتقرير على حكم العقل الأصلي، وما جاوز هذا كان اجتهادهم في تحقيق مناط الحكم لا في تنقيحه واستنباطه، والحكم إذا صار معلوما بضابط، فتحقيق الضابط في كل محل يحتاج إلى اجتهاد لا ننكره، فقد علموا قطعا أنه لا بد من إمام وعلموا أن الأصلح ينبغي أن يقدم وعرفوا بالاجتهاد الأصلح إذ لا بد منه ولا سبيل إلى معرفته إلا بالاجتهاد، وعرفوا أن حفظ القرآن عن الاختلاط والنسيان واجب قطعا، وعلموا أنه لا طريق إلى حفظه إلا الكتبة في المصحف، فهذه أمور علقت على المصلحة نصا وإجماعا، ولا يمكن تعيين المصلحة في الاشخاص وا لاحوال إلا بالاجتهاد، فهو من قبيل تحقيق المناط للحكم وما جاوز هذا من تشبيه مسألة بمسألة واعتبارها بها، كان ذلك في معرض النقض بخيال فاسد لا في معرض اقتباس الحكم، كقول ابن عباس في دية الاسنان‏:‏ كيف لم يعتبروا بالاصابع، إذ عللوا اختلاف دية الاسنان باختلاف منافعها، وذلك منقوض بالاصابع ونحن لا ننكر أن النقض من طرق إفساد القياس وإن كان القياس فاسدا بنفسه أيضا وكذلك قول علي أيضا‏:‏ أرأيت لو اشتركوا في السرقة حيث توقف عمر عن قتل سبعة بواحد، فإنه لما تخيل كون الشركة مانعا بنوع من القياس نقضه علي بالسرقة فإذا ليس في شئ مما ذكرتموه ما يصحح القياس أصلا‏.‏ والجواب‏:‏ أن هذا اعتراف بأنه لا حاجة في الحكم إلى دليل قاطع وأن الحكم بالظن جائز والانصاف الاعتراف بأنه لو لم يثبت إلا هذا النوع من الظن، لكنا لا نقيس ظن القياس على ظن الاجتهاد في مفهوم الالفاظ وتحقيق مناط الاحكام إذ يجوز أن يتعبد بنوع من الظن دون نوع ولكن بان لنا على القطع أن اجتهاد الصحابة لم يكن مقصورا على ما ذكروه بل جاوزوا ذلك إلى القياس والتشبيه، وحكموا بأحكام لا يمكن تصحيح ذلك إلا بالقياس تعليل النص وتنقيح مناط الحكم، وذلك كعهد أبي بكر إلى عمر رضي الله عنهما، فإنه قاس العهد على العقد بالبيعة، وقياس أبي بكر الزكاة على الصلاة في قتال من منع الزكاة، ورجوع أبي بكر إلى توريث أم الاب قياسا على أم الام، وقياس عمر الخمر على الشحم في تحريم ثمنه وقياسه الشاهد على القاذف في حد أبي بكرة، وتصريح علي بالقياس على الافتراء في حد الشرب، ولسنا نعني بالقياس إلا هذا الجنس، وهو معلوم منهم ضرورة في وقائع لا تحصى ولا تنحصر، ولنعين مسألتين مشهورتين نقلنا على التواتر، وهي مسألة الجد والاخوة ومسألة الحرام، أما في قوله‏:‏ أنت علي حرام ألحقه بعضهم بالظهار وبعضهم بالطلاق وبعضهم باليمين، وكل ذلك قياس وتشبيه في مسألة لا نص فيها إذ النص ورد في المملوكة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك‏}‏ ‏(‏التحريم‏:‏ 1‏)‏ والنزاع وقع في المنكوحة، فكان من حقهم أن يقولوا‏:‏ هذه لفظة لا نص في النكاح، فلا حكم لها ويبقى الحل والملك مستمرا، كما كان، لان قطع الحل والملك، أو إيجاب الكفارة يعرف بنص أو قياس على منصوص، ولا نص والقياس باطل، فلا حكم، فلم قاسوا المنكوحة على الامة‏؟‏ ولم قاسوا هذا اللفظ على لقظ الطلاق وعلى لفظ الظهار وعلى لفظ اليمين‏؟‏ ولم يقل أحد من الصحابة قد أغناكم الله عن إثبات حكم في مسألة لا نص فيها، وكذلك الجد وحده عصبة بالنص والاخ وحده عصبة ولا نص عند الاجتماع، فقضوا حيث لا نص بقضايا مختلفة وصرحوا بالتشبيه بالحوضين والخليجين وصرح من قدم الجد، وقال ابن الابن ابن فليكن أبو الأب أبا، وصرح من سوى بينهما بأن الاخ يدلي بالاب والجد أيضا يدلي به والمدلي به واحد والادلاء مختلف، فقاسوا الادلاء بجهة الابوة على الادلاء بجهة البنوة مع أن البنوة قد تفارق الابوة في أحكام وكذلك قال زيد في مسألة زوج وأبوين للام ثلث ما بقي، فقال ابن عباس‏:‏ أين رأيت في كتاب الله تعالى ثلث ما بقي، فقال‏:‏ أقول برأيي وتقول برأيك، فزيد قاس حال وجود الزوج على ما إذا لم يكن زوج‏.‏ إذ يكون للاب ضعف ما للام، فقال نقدر كأن الباقي بعد الزوج والزوجة كل المال، ونقدر كأن الزوج لم يكن وكذلك من فتش عن اختلافاتهم في مسائل الفرائض وغيرها علم ضرورة سلوكم طرق المقايسة والتشبيه، وأنهم إذا رأوا فارقا بين محل النص وغيره ورأوا جامعا وكان الجامع في اقتضاء الاجتماع أقوى في القلب من الفارق في اقتضاء الافتراق مالوا إلى الاقوى الاغلب، فإنا نعلم أنهم ما طلبوا المشابهة من كل وجه إذ لو تشابها من كل وجه لاتحدت المسألة ولم تتعدد فيبطل التشبيه والمقايسة، وكانوا لا يكتفون بالاشتراك في أي وصف كان، بل في وصف هو مناط الحكم وكون ذلك الوصف مناطا لو عرفوه بالنص لما بقي للاجتهاد والخلاف مجال، فكانوا يدركون ذلك بظنون وأمارات ونحن أيضا نشترط ذلك في كل قياس كما سيأتي في باب إثبات علة الأصل‏.‏ الاعتراض الخامس‏:‏ أن الصحابة إن قالوا بالقياس اختراعا من تلقاء أنفسهم فهو محال، وإن قالوا به عن سماع من النبي عليه السلام فيجب إظهار مستندهم والتمسك به، فإنكم تسلمون أنه لا حجة فيما أبدعوه ووضعوه، ونحن نسلم وجوب الاتباع فيما سمعوه، فإنه إذا قال عليه السلام‏:‏ إذا غلب على ظنكم أن مناط الحكم بعض الاوصاف فاتبعوه، فإن الامر كما ظننتموه، أو حكم الظان على ما ظنه، فهي علامة في حقه، وغير علامة في حق من ظنه بخلافه، فلا ينكر وجوب قبول هذا لو صرح به، فإنه إذا قال إذا ظننتم أن زيدا في الدار فاعلموا أن عمرا في الدار، واعلموا أني حرمت الربا في البر لكنا، نقطع بتحريم البر وكون عمرو في الدار مهما ظننا أن زيدا في الدار، فإن هذا يرجع إلى القول بالقياس، ولكن من أين فهم الصحابة هذا وليس في الكتاب والسنة ما يدل عليه‏.‏ والجواب من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن هذه مؤونة كفيناها، فإنهم مهما أجمعوا على القياس، فقد ثبت بالقواطع أن الامة لا تجتمع على الخطأ، بل لو وضعوا القياس واخترعوا استصوابا برأيهم ومن عند أنفسهم لكان ذلك حقا واجب الاتباع، فلا يجمع الله أمة محمد عليه السلام على الخطأ، فلا حاجة بنا إلى البحث عن مستندهم‏.‏ الثاني‏:‏ هو أنا نعلم أنهم قالوا ذلك عن مستندات كثيرة خارجة عن الحصر، وعن دلالات وقرائن أحوال وتكريرات وتنبيهات تفيد علما ضروريا بالتعبد وبالقياس وربط الحكم بما غلب على الظن كونه مناطا للحكم، لكن انقسمت تلك المستندات إلى ما اندرس، فلم ينقل اكتفاء بما علمته الامة ضرورة، وإلى ما نقل، ولكن لم يبق في هذه الاعصار إلا نقل الآحاد لم يبق على حد التواتر، ولا يورث العلم وإلى ما تواتر ولكن آحاد لفظها يتطرق الاحتمال والتأويل إليه، فلا يحصل العلم بآحادها، وإلى ما هي قرائن أحوال يعسر وصفها ونقلها، فلم ينقل إلينا، فكفينا مؤونة البحث عن المستند لما علمناه عل التواتر من إجماعهم، ونحن مع هذا نشبع القول في شرح مستندات الصحابة والالفاظ التي هي مدارك تنبيهاتهم للتعبد بالقياس، وذلك من القرآن، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعتبروا يا أولي الابصار‏}‏ ‏(‏الحشر‏:‏ 2‏)‏ إذ معنى الاعتبار العبور من الشئ إلى نظيره إذا شاركه في المعنى، كما قال ابن عباس‏:‏ هلا اعتبروا بالاصابع‏؟‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 38‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ما فرطنا في الكتاب من شئ‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 83‏)‏ وليس في الكتاب مسألة الجد والاخوة ومسألة الحرام إذا لم يكن الاقتباس من المعاني التي في الكتاب، وقد تمسك القائلون بالقياس بهذه الآيات، وليست مرضية، لانها ليست بمجردها نصوصا صريحة إن لم تنضم إليها قرائن، ومن ذلك قوله عليه السلام لمعاذ‏:‏ بم تحكم قال‏:‏ بكتاب الله وسنة نبيه، قال‏:‏ فإن لم تجد‏؟‏ قال أجتهد رأيي، فقال‏:‏ الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله وهذا حديث تلقته الامة بالقبول، ولم يظهر أحد فيه طعنا وإنكارا، وما كان كذلك فلا يقدح فيه كونه مرسلا بل لا يجب البحث عن إسناده، وهذا كقوله‏:‏ لا وصية لوارث ولا تنكح المرأة على عمتها ولا يتوارث أهل ملتين وغير ذلك مما علمت به الامة كافة، إلا أنه نص في أصل الاجتهاد، ولعله في تحقيق المناط وتعيين المصلحة فيما علق أصله بالمصلحة، فلا يتناول القياس إلا بعمومه، ومن ذلك قوله لعمر حين تردد في قبلة الصائم‏:‏ أرأيت لو تمضمضت أكان عليك من جناح‏؟‏ فقال‏:‏ لا فقال‏:‏ فلم إذا‏؟‏ فشبه مقدمة الوقاع بمقدمة الشرب، لكنه ليس بصريح إلا بقرينه، إذ يمكن أن يكون ذلك نقضا لقياسه حيث ألحق مقدمة الشئ بالشئ فقال إن كنت تقيس غير المنصوص على المنصوص لانه مقدمته فألحق المضمضة بالشرب، ومن ذلك قوله عليه السلام للخثعمية‏:‏ أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه‏؟‏ قالت‏:‏ نعم قال‏:‏ فدين الله أحق بالقضاء فهو تنبيه على قياس دين الله تعالى على دين الخلق، ولا بد من قرينة تعرف القصد أيضا، إذ لو كان لتعلم القياس لقيس عليه السلام الصوم والصلاة ومن ذلك قوله عليه السلام‏:‏ كنت نهيتكم عن لحوم الاضاحي لاجل الدافة - أي القافلة -‏:‏ فادخروا فبين أنه وان سكت عن العلة فقد كان النهي لعلة وقد زالت العلة فزال الحكم، ومن ذلك قوله عليه السلام‏:‏ أينقض الرطب إذا يبس‏؟‏ فقيل‏:‏ نعم قال‏:‏ فلا إذا وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم‏}‏ ‏(‏الحشر‏:‏ 7‏)‏ وقال لام سلمة وقد سئلت عن قبلة الصائم‏:‏ ألا أخبرتيه أني أقبل وأنا صائم‏؟‏ تنبيها على قياس غيره عليه، وروت أم سلمة رضي الله عنها أنه قال‏:‏ أني أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي ودل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتحكم بين الناس بما أراك الله‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 501‏)‏ وليس الرأي إلا تشبيها وتمثيلا بحكم ما هو أقرب إلى الشئ وأشبه به، وإذا ثبت أنه كان مجتهدا بالامر وثبت اجتهاد الصحابة فيعلم أنهم اجتهدوا بالامر، وقال عمر‏:‏ يا أيها الناس، إن الرأي كان من النبي عليه السلام مصيبا، فإن الله تعالى كان يسدده، وإنما هو منا الظن والتكلف، فلم يفرق إلا في العصمة، ومن ذلك أمره سعد بن معاذ أن يحكم في بني قريظة برأيه، فأمرهم بالنزول على حكمه، فأمر بقتلهم وسبي نسائهم، فقال عليه السلام‏:‏ لقد وافق حكمه حكم الله ومن ذلك قوله‏:‏ إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران ومن ذلك أنه عليه السلام شاور الصحابة في عقوبة الزنا والسرقة قبل نزول الحد ومن ذلك قوله عليه السلام‏:‏ لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها علل تحريم ثمنها بتحريم أكلها، واستدل عمر بهذا في الرد على سمرة حيث أخذ الخمر في عشور الكفار وباعها، ومن تعليلاته بعض الاحكام كقوله‏:‏ لا تخمروا رأسه فإنه يحشر ملبيا وقوله في الشهداء مثل لك، وقوله‏:‏ أنها من الطوافين عليكم والطوافات وقوله في الذي ابتاع غلاما واستغفله ثم رده الخراج بالضمان فهذه أجناس لا تدخل تحت الحصر، وآحادها لا تدل دلالة قاطعة، ولكن لا يبعد تأثير اقترانها مع نظائرها في أشعار الصحابة بكونهم متعبدين بالقياس والله أعلم‏.‏ القول في شبه المنكرين للقياس والصائرين إلى حظره من جهة الكتاب والسنة وهي سبع الأولى‏:‏ تمسكهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما فرطنا في الكتاب من شئ‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 83‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تبيانا لكل شئ‏}‏ ‏(‏النحل‏:‏ 98‏)‏ قالوا‏:‏ معناه بيانا لكل شئ مما شرع لكم، فإنه ليس فيه بيان الاشياء كلها، فليكن كل مشروع في الكتاب، وما ليس مشروعا فيبقى على النفي الأصلي والجواب من أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أنه أين في كتاب الله تعالى مسألة الجد والاخوة والعول والمبتوتة والمفوضة، وأنت علي حرام، وفيها حكم لله تعالى شرعي اتفق الصحابة على طلبه، والكتاب بيان له، إما بتمهيد طريق الاعتبار، أو بالدلالة على الإجماع والسنة، وقد ثبت القياس بالإجماع والسنة، فيكون الكتاب قد بينه‏.‏ الثاني‏:‏ أنكم حرمتم القياس، وليس في كتاب الله تعالى بيان تحريمه، فيلزمكم تخصيص قوله تعالى لكل شئ كما خصص قوله‏:‏ ‏{‏خالق كل شئ‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 201‏}‏ ‏(‏وأوتيت من كل شئ‏}‏ ‏(‏النمل‏:‏ 32‏}‏ ‏(‏تدمر كل شئ‏}‏ ‏(‏الاحقاف‏:‏ 52‏)‏‏.‏ الثانية‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كفارة‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 94‏)‏ وهذا حكم بغير المنزل‏؟‏ قلنا‏:‏ القياس ثابت بالسنة والإجماع، وقد دل عليه الكتاب المنزل كيف ومن حكم بمعنى استنبط من المنزل فقد حكم بالمنزل، ثم هذا خطاب مع الرسول عليه السلام وقد قاسوا عليه غيره، فأقروا بالقياس في معرض إبطال القياس مع انقداح الفرق إذ قال قوم‏:‏ لم يجز الاجتهاد للرسول عليه السلام كي لا يتهم، ولانه كان يقدر على التبليغ بالوحي بخلاف الامة، وهذا الجواب أيضا عن قوله‏:‏ ‏{‏اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم‏}‏ ‏(‏الاعراف‏:‏ 3‏}‏ ‏(‏ومن لم يحكم بما أنزل الله‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 44، 45، 47‏)‏‏.‏ الثالثة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 961، الاعراف‏:‏ 33‏}‏ ‏(‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏}‏ ‏(‏الاسراء‏:‏ 63‏}‏ ‏(‏وإن الظن لا يغني من الحق شيئا‏}‏ ‏(‏النجم‏:‏ 82‏)‏ و ‏{‏إن بعض الظن إثم‏}‏ ‏(‏الحجرات‏:‏ 21‏)‏ قلنا‏:‏ إذا علمنا أنا إذا ظننا كون زيد في الدار حرم علينا الربا في البر، ثم ظننا كان الحكم مقطوعا به لا مظنونا، كما إذا ظن القاضي صدق الشهود، وكما في القبلة وجزاء الصيد وأبواب تحقيق مناط الحكم، ثم نقول‏:‏ هذا عام أراد به ظنون الكفار المخالفة للأدلة القاطعة، ثم نقول ألستم قاطعين بإبطال القياس مع أنا نقطع بخطئكم فلا تحكموا بالظن، وليس من الجواب المرضي قول القائل‏:‏ الظن علم في الظاهر فإن العلم ليس له ظاهر وباطن‏.‏ الرابعة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 121‏)‏ قالوا‏:‏ وأنتم تجادلون في القياس‏؟‏ قلنا‏:‏ وأنتم تجادلون في نفيه وإبطاله، فإن قلتم‏:‏ أراد به الجدال الباطل فهو عذرنا، فإنه رد عليهم في جدالهم، بخلاف النص حيث قالوا‏:‏ نأكل ما قتلناه ولا نأكل مما قتله الله، وكما قاسوا الربا على البيع فرد الله تعالى عليهم في قولهم‏:‏ ‏{‏إنما البيع مثل الربا‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 572‏)‏‏.‏ الخامسة‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏تعلمها‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 95‏)‏ قالوا‏:‏ وأنتم تردون إلى الرأي، قلنا‏:‏ لا بل نرده إلى العلل المستنبطة من نصوص النبي عليه السلام، والقياس عباره عن تفهم معاني النصوص بتجريد مناط الحكم، وحذف الحشو الذي لا أثر له في الحكم، وأنتم‏:‏ فقد رددتم القياس من غير رد إلى نص النبي عليه السلام ولا إلى معنى مستنبط من النص‏.‏ السادسة‏:‏ قوله عليه السلام تعمل هذه الامة برهة بالكتاب، وبرهة بالسنة وبرهة بالقياس، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا قلنا‏:‏ أراد به الرأي المخالف للنص، بدليل قوله‏:‏ ستفترق أمتي نيفا وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الامور برأيهم، فيحلون الحرام ويحرمون الحلال وما نقلوا من آثار الصحابة في ذم الرأي والقياس قد تكلمنا عليه‏.‏ السابعة‏:‏ قول الشيعة وأهل التعليم‏:‏ إنكم اعترفتم ببطلان القياس بخلاف النص، والنصوص محيطة بجميع المسائل، وإنما يعلمها الامام المعصوم، وهو نائب الرسول، فيجب مراجعته، قالوا‏:‏ ولا يمنع من هذا كون الوقائع غير متناهية، وكون النصوص متناهية لان التي لا تتناهى أحكام الاشخاص، كحكم زيد وعمرو في أنه عدل تقل شهادته أم لا، وفقير تصرف إليه الزكاة أم لا، ومسلم أن هذا يعرف بالاجتهاد، لانه يرجع إلى تحقيق مناط الحكم، أما الروابط الكلية للاحكام فيمكن ضبطها بالنص بأن نقول مثلا‏:‏ من سرق نصابا كاملا من حرز مثله لا شبهة له فيه فيلزمه القطع، ومن أفطر في نهار رمضان بجماع تام أثم به لاجل الصوم لزمته الكفارة، فما تناولته الرابطة الجامعة يجري فيه الحكم، وما خرج عنه مما لا يتناهى يبقى على الحكم الأصلي، فتكون محيطة بهذه الطرق‏.‏ والجواب‏:‏ أنا لا نسلم بطلان القياس مع النص، ونسلم إمكان الربط بالضوابط والروابط الكلية، لكنكم اخترعتم هذه الدعوى، فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسألة الجد والحرام والمفوضة و مسائل كثيرة وكانوا يطلبون من سمع فيها حديثا من النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم المعصوم بزعمكم وكانوا يشاورونه ويراجعونه، فتارة وافقوه وتارة خالفوه، ولم ينقل قط حديث ولا نص إلا ساعدوه، بل قبلوا النقل من كل عدل، فضلا عن الخلفاء الراشدين فلم كتم النص عنهم في بعض المسائل وتركهم مختلفين إن كانت النصوص محيطة، فبلضرورة يعلم من اجتهادهم واختلافهم أن النصوص لم تكن محيطة، فدل هذا أنهم كانوا متعبدين بالاجتهاد‏.‏ القول في شبههم المعنوية وهي ست‏:‏ الأولى‏:‏ قول الشيعة والتعليمية‏:‏ إن الاختلاف ليس من دين الله، ودين الله واحد ليس بمختلف، وفي رد الخلق إلى الظنون ما يوجب الاختلاف ضرورة، الرأي منبع الخلاف فإن كان كل مجتهد مصيبا فكيف يكون الشئ ونقيضه دينا، وإن كان المصيب واحدا فهو محال، إذ ظن، هذا كظن ذاك، والطنيات لا دليل فيها بل ترجع إلى ميل النفوس ورب كلام تميل إليه نفس زيد وهو بعينه ينفر عنه قلب عمرو، والدليل على ذم الاختلاف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 28‏)‏ وقال‏:‏ ‏{‏أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه‏}‏ ‏(‏الشورى‏:‏ 31‏)‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم‏}‏ ‏(‏الانفام‏:‏ 46‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 159‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البينات‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 501‏)‏ وكذلك ذم الصحابة رضي الله عنهم الاختلاف، فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ لا تختلفوا، فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافا، وسمع ابن مسعود وأبي بن كعب يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد والثوبين، فصعد عمر إلى المنبر وقال‏:‏ اختلف رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أي فتياكم يصدر المسلمون، لا أسمع اثنين يختلفان بعد مقامي هذا إلا فعلت وصنعت‏.‏ وقال جرير بن كليب‏:‏ رأيت عمر ينهى عن المتعة وعلي يأمر بها، فقلت‏:‏ إن بينكما لشرا، فقال علي‏:‏ ما بيننا إلا خير، ولكن خيرنا أتبعنا لهذا الدين، وكتب علي رضي الله عنه إلى قضاته أيام الخلافة أن اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الخلاف، وأرجو أن أموت كما مات أصحابي‏.‏ والجواب‏:‏ أن الذي نراه تصويب المجتهدين، وقولهم أن الشئ ونقيضه كيف يكون دينا، قلنا يجوز‏:‏ ذلك في حق شخصين، كالصلاة وتركها في حق الحائض والطاهر، والقبلة في حق، من يظنها إذا اختلف الاجتهاد في القبلة، وكجواز ركوب البحر وتحريمه في حق رجلين يغلب على ظن أحدهما السلامة وعلى ظن الآخر الهلاك، وكتصديق الراوي والشاهد وتكذيبهما في حق قاضيين ومفتيين يظن أحدهما الصدق والآخر الكذب، وأما قولهم كيف يكون الاختلاف مأمورا به‏؟‏ قلنا‏:‏ بل يؤمر المجتهد بظنه، وإن خالفه غيره فليس رفعه داخلا تحت اختياره، فالاختلاف واقع ضرورة لا أنه أمر به، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 28‏)‏ معناه التناقض والكذب الذي يدعيه الملحدة، أو الاختلاف في البلاغة واضطراب اللفظ الذي يتطرق إلى كلام البشر بسبب اختلاف أحواله في نظمه ونثره، وليس المراد به نفي الاختلاف في الاحكام، لان جميع الشرائع والملل من عند الله، وهي مختلفة، والقرآن فيه أمر ونهي وإباحة ووعد ووعيد، وأمثال ومواعظ وهذه اختلافات، أما قوله‏:‏ ‏{‏ولا تتفرقوا‏}‏ ‏(‏الشورى‏:‏ 31‏}‏ ‏(‏ولا تنازعوا‏}‏ فكل ذلك نهي عن الاختلاف في التوحيد والايمان بالنبي عليه السلام والقيام بنصرته، وكذلك أصول جميع الديانات التي الحق فيها واحد، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏من بعدما جاءهم البينات‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 501‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم‏}‏ ‏(‏الانفال‏:‏ 64‏)‏ أراد به التخاذل عن نصرة الدين، وأما ما رووه عن الصحابة رضي الله عنهم في ذم الاختلاف، فكيف يصح وهم أول المختلفين والمجتهدين، واختلافهم واجتهادهم معلوم تواترا، كيف تدفعها روايات يتطرق إلى سندها ضعف وإلى متنها تأويل من النهي عن الاختلاف في أصل الدين أو نصرة الدين، أو في أمر الخلافة والامامة والخلاف بعد الإجماع، أو الاختلاف على الائمة والولاة والقضاة، أو نهي العوام عن الاختلاف بالرأي وليسوا أهل الاجتهاد‏؟‏ وأما إنكار عمر اختلاف ابن مسعود وأبي بن كعب فلعله قد كان سبق إجماع على ثوب واحد، ومن خالف ظن أن انقضاء العصر شرط في الإجماع، ولذلك قال عمر‏:‏ عن أي فتياكم يصدر المسلمون وأنتم جميعا تروون عن النبي عليه السلام، أو لعل كل واحد أثم صاحبه وبالغ فيه، فنهى عن وجه الاختلاف لا عن أصله، أو لعلهما اختلفا على مستفت واحد، فتحير السائل فقال، عن أي فتياكم يصدر الناس، أي العامة، بل إذا ذكر المفتي في محل الاجتهاد شيئا للعامي فلا ينبغي للمفتي الآخر أن يخالفه بين يديه فيتحير السائل، وأما اختلاف عمر وعلي رضي الله عنهما في تحريم المتعة فلا يصح، بل صح عن علي نقله تحريم متعة النساء ولحوم الحمر الاهلية يوم خيبر كيف وقد علم قطعا أنهم جوزوا الاجتهاد، أما كتاب علي إلى قضاته وكراهية الاختلاف فيحتمل وجوها‏:‏ أحدها‏:‏ أنهم ربما كتبوا إليه يطلبون رأيه في بعض الوقائع فقال‏:‏ اقضوا كما كنتم تقضون، إذ لو خالفتموهم الآن لا نفتق به فتق آخر وحمل ذلك على تعصب مني ومخالفة، ويحتمل أنهم استأذنوه في مخالفة إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ظن أن العصر لم ينقرض، بعد فيجوز الخلاف، فكره لهم مخالفة السابقين، واستأذنوه في القضاء بشهادة أهل البصرة من الخوارج وغيرهم أو ردها فأمرهم بقبولها كما كان قبل الحرب لانهم حاربوا على تأويل وفي رد شهادتهم تعصب وتجديد خلاف‏.‏ الثانية‏:‏ قولهم النفي الأصلي معلوم، والاستثناء عنه بالنص معلوم فيبقى المسكوت عنه على النفي الأصلي المعلوم، فكيف يندفع المعلوم‏:‏ على القطع بالقياس المظنون‏؟‏ قلنا‏:‏ العموم والظواهر وخبر الواحد وقول المقوم في أروش الجنايات والنفقات وجزاء الصيد وصدق الشهود وصدق المخالف في مجلس الحكم، كل ذلك مظنون، ويرفع به النفي الأصلي، ثم نقول‏:‏ نحن لا نرفع ذلك إلا بقاطع، فإنا إذا تعبدنا بإتباع العلة المظنونة وظننا فنقطع بوجود الظن، ونقطع بوجود الحكم عند الظن فلا يرفع ذلك إلا بقاطع‏.‏ الثالثة‏:‏ قولهم كيف يتصرف بالقياس في شرع مبناه على التحكم والتعبد، والفرق بين المتماثلات والجمع بين المتفرقات، إذ قال يغسل الثوب من بول الصبية ويرش من بول الصبي، ويجب الغسل من المني والحيض، ولا يجب من البول والمذي، وفرق في حق الحائض بين قضاء الصلاة والصوم، وأباح النظر إلى الرقيقة دون الحرة، وجمع بين المختلفات فأوجب جزاء الصيد على من قتله عمدا أو خطأ، وفرق في حلق الشعر والتطيب بين العمد والخطأ، وأوجب الكفارة بالظهار، والقتل واليمين والافطار، وأوجب القتل على الزاني والكافر والقاتل وتارك الصلاة، وقال لابي بردة‏:‏ تجزئ عنك ولا تجزئ عن أحد بعدك في الاضحية‏.‏ وقيل للنبي عليه السلام‏:‏ ‏{‏خالصة لك من دون المؤمنين‏}‏ ‏(‏الاحزاب‏:‏ 50‏)‏ وكيف يتحاسر في شرع هذا منهاجه على إلحاق المسكوت بالمنطوق، وما من نص على محل إلا ويمكن أن يكون ذلك تحكما وتعبدا‏؟‏ قلنا‏:‏ لا ننكر إشتمال الشرع على تحكمات وتعبدات، فلا جرم نقول‏:‏ الاحكام ثلاثة أقسام‏:‏ قسم لا يعلل أصلا، وقسم يعلم كونه معللا، كالحجر على الصبي، فإنه لضعف عقله، وقسم يتردد فيه، ونحن لا نقيس ما لم يقم لنا دليل على كون الحكم معللا، ودليل على عين العلة المستنبطة، ودليل على وجود العلة في الفرع، وعند ذلك يندفع الاشكال المذكور، ولما كثرت التعبدات في العبادات لم يرتضى قياس غير التكبير والتسليم والفاتحة عليها، ولا قياس غير المنصوص في الزكاة على المنصوص، وإنما نقيس في المعاملات وغرامات الجنايات، وما علم بقرائن كثيرة بناؤها على معان معقولة ومصالح دنيوية‏.‏ الرابعة‏:‏ قولهم إن النبي عليه السلام قد أوتي جوامع الكلم، فكيف يليق به أن يترك الوجيز المفهم، ويعدل إلى الطويل الموهم، فيعدل عن قوله‏:‏ حرمت الربا في كل مطعوم أو كل مكيل إلى عد الاشياء الستة ليرتبك الخلق في ظلمات الجهل‏؟‏ قلنا‏:‏ ولو ذكر الاشياء الستة وذكر معها أن ما عداها لا ربا فيه وأن القياس حرام فيه، لكان ذلك أصرح، وللجهل والاختلاف أدفع، فلم لم يصرح وقد كان قادرا ببلاغته على قطع الاحتمال للالفاظ العامة والظواهر وعلى أن يبين الجميع في القرآن المتواتر، ليحسم الاحتمال عن المتن والسند جميعا، وكان قادرا على رفع احتمال التشبيه في صفات الله تعالى بالتصريح بالحق في جميع ما وقع الخلاف فيه في العقليات، وإذا لم يفعل فلا سبيل إلى التحكم على الله ورسوله فيما صرح ونبه وطول وأوجز، والله أعلم بأسرار ذلك كله، ثم نقول‏:‏ إن علم الله تعالى لطفا وسرا في تعبد العلماء بالاجتهاد وأمرهم بالتشمير عن ساق الجد في استنباط أسرار الشرع فيتعين عليه أن يذكر البعض ويسكت عن البعض، وينبه عليها تنبيها يحرك الدواعي للاجتهاد‏:‏ ‏{‏يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات‏}‏ ‏(‏المجادلة‏:‏ 11‏)‏ هذا على مذهب من يوجب الصلاح وعندنا فلله تعالى أن يفعل بعباده ما يشاء‏.‏ الخامسة‏:‏ قولهم أن الحكم يثبت في الأصل بالنص لا بالعلة، فكيف يثبت في الفرع، بالعلة وهو تابع للاصل، فكيف يكون ثبوت الحكم فيه بطرق سوى طريق الامل، وأن ثبت في الأصل بالعلة فهو محال، لان النص قاطع، والعلة مظنونة، والحكم مقطوع به، فكيف يحال المقطوع به على العلة المظنونة‏؟‏ قلنا‏:‏ الحكم في الأصل يثبت بالنص، وفائدة استنباط العلة المظنونة إما تعدية العلة وأما الوقوف على مناط الحكم المظنون للمصلحة، وأما زوال الحكم عند زوال المناط كما سيأتي في العلة القاصرة، وأما الحكم في الفرع وإن كان تابعا للاصل في الحكم فلا يلزم أن يتبعه في الطريق، فإن الضروريات والمحسوسات أصل للنظريات، ولا يلزم مساواة الفرع لها في الطريق، وإن لزمت المساواة في الحكم‏.‏ السادسة‏:‏ وهي عمدتهم الكبرى أن الحكم لا يثبت إلا بتوقيف والعلة غايتها أن تكون منصوصا عليها، فلو قال الشارع‏:‏ اتقوا الربا في كل مطعوم، فهو توقيف عام، ولو قال‏:‏ اتقوا الربا في البر لانه مطعوم، فهذا لا يساويه ولا يقتضي الربا في غير البر، كما لو قال المالك‏:‏ أعتق من عبيدي كل أسود، عتق كل أسود، فلو قال‏:‏ أعتق غانما لسواده، أو لانه أسود، لم يعتق جميع عبيده السود، وكذلك لو علل بمخيل وقال‏:‏ أعتقوا غانما لانه سئ الخلق حتى أتخلص منه، لم يلزم عتق سالم، وإن كان أسوأ خلقا منه، فإذا كانت العلة المنصوصة لا يمكن تعديتها لقصور لفظها، فالمستنبطة كيف تعدى أو كيف يفرق بين كلام الشارع وبين كلام غيره في الفهم، وإنما منهاج الفهم وضع اللسان وذلك لا يختلف‏.‏ والجواب‏:‏ أن نفاة القياس ثلاث فرق، وهذا لا يستقيم من فريقين، وإنما يستقيم من الفريق الثالث‏.‏ إذ منهم من قال‏:‏ التنصيص على العلة كذكر اللفظ العام، فإنه لا فرق بين قوله‏:‏ حرمت الخمر لشدتها، وبين قوله‏:‏ حرمت كل مشتد، في أن كل واحد‏:‏ يوجب تحريم النبيذ، لكن بطريق اللفظ لا بطريق القياس، بل فائدة قوله‏:‏ لشدتها، إقامة الشدة مقام الاسم العام فقد أقر هذا القائل بالالحاق، وإنما أنكر تسميته قياسا‏.‏ الفريق الثاني من القاشانية والنهروانية فإنهم أجازوا القياس بالعلة المنصوصة دون المستنبطة فقالوا‏:‏ إذا كشف النص أو دليل آخر عن الأصل كانت العلة جامعة للحكم في جميع مجاريها، وما فارقهم الفريق الأول‏:‏ إلا في التسمية، حيث لم يسموا هذا الفن قياسا، والفريقان مقران بأن هذا في العتق والوكالة لا يجري، فلا يصح منهما الاستشهاد مع الاقرار بالفرق‏.‏ أما الفريق الثالث وهو من أنكر الالحاق مع التنصيص على العلة فتستقيم لهم هذه الحجة‏.‏ وجوابهم من ثلاثة أوجه‏.‏ الأول‏:‏ ان الصيرفي من أصحابنا يتشوف إلى التسوية فقال‏:‏ لو قال أعتقت هذا العبد لسواده، فاعتبروا وقيسوا عليه كل أسود، لعتق كل عبد أسود، وهو وزان مسألتنا، إذا أمرنا بالقياس والاعتبار، ولو لم يثبت التعبد به لكان مجرد، التنصيص على العلة لا يرخص في الالحاق، إذ يجوز أن تكون العلة شدة الخمر خاصة، ومنهم من قال‏:‏ إن علم قطعا قصده إلى عتقه لسواده عتق كل عبد أسود بقوله‏:‏ أعتقت غانما لسواده، ومنهم من قال‏:‏ لا يكفي أن يعلم قصده عتقه بمجرد السواد ما لم ينو بهذا اللفظ عتق جميع السودان، فإن نوى كفاه هذا اللفظ لاعتاق جميع السودان مع النية، ولم يكن فيه إلا إرادته معنى عاما بلفظ خاص، وذلك غير منكر، كما لو قال‏:‏ والله لا أكلت لفلان خبزا ولا شربت من مائة جرعة، ونوى به دفع المنة، حنث بأخذ الدراهم والثياب والامتعة، وصلح اللفظ الخاص مع هذه النية للمعنى العام، كما صلح قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 01‏)‏ للنهي عن الاتلاف العام‏:‏ وقوله ‏{‏فلا تقل لهما أف‏}‏ ‏(‏الاسراء‏:‏ 32‏)‏ للنهي عن الايذاء العام، فإذا استتب لهؤلاء الفرق التسوية بين الخطابين فإنهم إنما يعممون الحكم إذا دل الدليل على إرادة الشرع تعليق الحكم المجردة، ولكنه غير مرضي عندنا، بل الصحيح أنه لا يعتق إلا غانم بقوله‏:‏ أعتقت غانما لسواده، وإن نوى عتق السودان، لانه يبقى في حق غير غانم مجرد النية والارادة فلا تؤثر‏.‏ الوجه الثاني‏:‏ من الجواب أن الامة مجمعة على الفرق، إذ تجب التسوية في الحكم مهما قال‏:‏ حرمت الخمر لشدتها فقيسوا عليها كل مشتد، ولو قال‏:‏ أعتقت غانما لسواده فقيسوا عليه كل أسود، اقتصر العتق على غانم عند الاكثرين، فكيف يقاس أحدهما على الآخر مع الاعتراف بالفرق، وإنما اعترفوا بالفرق لان الحكم لله في أملاك العباد، وفي أحكام الشرع وقد علق أحكام الاملاك حصولا وزوالا بالالفاظ دون الارادات المجردة، وأما أحكام الشرع فتتبت بكل ما دل على رضا الشرع وإرادته من قرينة ودلالة وإن لم يكن لفظا بدليل أنه لو بيع مال لتاجر بمشهد منه بأضعاف ثمنه فاستبشر وظهر أثر الفرح عليه لم ينفذ البيع إلا بتلفظه بإذن سابق أو إجازة لاحقة عند أبي حنيفة ولو جرى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل فسكت عليه دل سكوته على رضاه وثبت الحكم به، فكيف يتساويان، بل ضيق الشرع تصرفات العباد حتى لم تحصل أحكامها بكل لفظ بل ببعض الالفاظ، فإنه لو قال الزوج‏:‏ فسخت النكاح وقطعت الزوجية ورفعت علاقة الحل بيني وبين زوجتي لم يقع الطلاق ما لم ينو الطلاق، فإذا تلفظ بالطلاق وقع وإن نوى غير الطلاق، فإذا لم تحصل الاحكام بجميع الالفاظ بل ببعضها فكيف تحصل بما دون اللفظ مما يدل على الرضا‏.‏ الوجه الثالث‏:‏ أن قول القائل‏:‏ لا تأكل هذه الحشيشة لانها سم ولا تأكل الهليلج فإنه مسهل، ولا تأكل العسل فإنه حار، ولا تأكل أيها المفلوج القثاء فإنه بارد، ولا تشرب الخمر فإنه يزيل العقل، ولا تجالس فلانا فإنه أسود، فأهل اللغة متفقون على أن معقول هذا التعليل تعدى النهي إلى كل ما فيه العله هذا مقتضى اللغة، وهذا أيضا مقتضاه في العتق، لكن التعبد منع من الحكم بالعتق بالتعليل بل، لا بد فيه من اللفظ الصريح المطابق للمحل، ولا مانع منه في الشرع، إذ كل ما عرف بإشارة وأمارة وقرينة فهو كما عرف باللفظ، فكيف يستويان مع الإجماع على الفرق، لان المفرق بين المتماثلات كالجامع بين المختلفات، فمن أثبت الحكم للخلافين يتعجب منه ويطلب منه الجامع، ومن فرق بين المثلين يتعجب منه لماذا فرق بينهما، فإن قيل‏:‏ إن قال من تجب طاعته‏:‏ بع هذه الدابة لجماحها، وبع هذا العبد لسوء خلقه، فهل يجوز للمأمور بيع ما شاركه في العلة‏؟‏ فإن قلتم يجوز، فقد خالفتم الفقهاء، وإن منعتم فما، الفرق بين كلامه وبين كلام الشارع مع الاتفاق في الموضعين‏؟‏ وإن ثبت تعبد في لفظ العتق والطلاق بخصوص الجهة فلم يثبت في لفظ الوكالة‏.‏ قلنا‏:‏ أن كان قد قال له إن ما ظهر لك إرادتي إياه أو رضاي به بطرق الاستدلال دون صريح اللفظ فافعله، فله أن يفعل ذلك، وهو وزان حكم الشرع، لكن يشترط أمر آخر وهو أن يقطع بأنه أمر ببيعه لمجرد سوء الخلق لا لسوء الخلق مع القبح أو مع الخرق في الخدمة، فإنه قد يذكر بعض أوصاف العلة، فإن لم يعلم قطعا ولكن ظنه ظنا فينبغي أن يكون قد قال له ظنك نازل منزلة العلم في تسليطك على التصرف، فإن اجتمع هذه الشروط جاز التصرف وهو وزان مسألتنا، فإن قيل‏:‏ وإن كان الشارع قد قال‏:‏ ما عرفتموه بالقرائن والدلائل من رضاي وإرادتي فهو كما عرفتموه بالصريح فلم يقل إني إذا ذكرت علة شئ ذكرت تمام أوصافه، فلعله علل تحريم الخمر بشدة الخمر وتحريم الربا بطعم البر خاصة لا للشدة المجردة، ولله أسرار في الاعيان، فقد حرم الخنزير والميتة والدم والموقوذة والحمر الاهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، لخواص، لا يطلع عليها، فلم يبعد أن يكون لشدة الخمر من الخاصية ما ليس لشدة النبيذ، فبماذا يقع الامر عن هذا، وهذا أوقع كلام في مدافعة القياس والجواب‏:‏ أن خاصة المحل قد يعلم ضرورة سقوط اعتبارها، كقوله‏:‏ أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أولى بمتاعه إذ يعلم أن المرأة في معناه، وقوله‏:‏ من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي فالامة في معناه، لانا عرفنا بتصفح أحكام العتق والبيع وبمجموع إمارات وتكريرات وقرائن أنه لا مدخل للانوثة في البيع والعتق، وقد يعلم ذلك ظنا بسكون النفس إليه، وقد عرفنا أن الصحابة رضي الله عنهم عولوا على الظن، فعلمنا أنهم فهموا من النبي عليه السلام قطعا إلحاق الظن بالقطع، ولولا سيرة الصحابة لما تجاسرنا عليه، وقد اختلفوا في مسائل ولو كانت قطيعة لما اختلفوا فيها، فعلمنا أن الظن كالعلم أما حيث انتفى الظن والعلم وحصل الشك فلا يقدم على القياس أصلا‏.‏

مسألة ‏(‏العلة المنصوصة‏)‏

قال النظام‏:‏ العلة المنصوصة توجب الالحاق، لكن لا بطريق القياس، بل بطريق اللفظ والعموم، إذ لا فرق في اللغة بين قوله‏:‏ حرمت كل مشتد، وبين قوله‏.‏ حرمت الخمر لشدتها، وهذا فاسد، لان قوله حرمت الخمر لشدتها لا يقتضي من حيث اللفظ والوضع إلا تحريم الخمر خاصة، ولا يجوز إلحاق النبيذ ما لم يرد التعبد بالقياس، وإن لم يرد فهو كقوله‏:‏ أعتقت غانما لسواده، فإنه لا يقتضي إعتاق جميع السودان، فكيف يصح هذا ولله أن ينصب شدة الخمر خاصة علة ويكون فائدة ذكر العلة زوال التحريم عند زوال الشدة ويجوز أن يعلم الله خاصية في شدة الخمر تدعو إلى ركوب القبائح ويعلم في شدة النبيذ لطفا داعيا إلى العبادات، فإذا قد ظن النظام أنه منكر للقياس، وقد زاد علينا إذ قاس حيث لا نقيس لكنه أنكر اسم القياس، فإن قيل‏:‏ قول السيد والوالد لعبده ولده‏:‏ لا تأكل هذا لانه سم وكل هذا فإنه غذاء، يفهم منه المنع عن أكل سم آخر، والامر يتناول ما هو مثله في الاغتذاء، قلنا‏:‏ لان ذلك معلوم بقرينة إطراد العادات، ومعرفة أخلاق الآباء والسادات في مقاصدهم من العبيد والابناء، وأنهم لا يفرقون بين سم وسم، وإنما يتقون الهلاك، وأما الله تعالى إذا حرم شيئا بمجرد إرادته فيجوز أن يبيح مثله وأن يحرم، لان فيه رفقا ومصلحة، فيجوز أن يكون قد سبق في علمه أن مثله مفسدة، لان تضمنه الصلاح والفساد ليس لطبعه ولذاته ولوصف هو عليه في نفسه، بل يجوز أن يكون في فعل شئ وقت الزوال مصلحة، وفيه وقت العصر مفسدة، وكذلك يجوز أن يختلف بيوم السبت والجمعة والمكان والحال، فكذلك يجوز أن يفارق شدة الخمر شدة النبيذ، فإن قيل‏:‏ فإن لم يفهم النبيذ من الخمر فينبغي أن لا يفهم تحريم الضرب والاذى من التأفيف‏؟‏ قلنا‏؟‏ الحق عندنا، أن ذلك غير مفهوم من مجرد اللفظ العاري عن القرينة، لكن إذا دلت قرينة الحال على قصد الاكرام فعند ذلك يدل لفظ التأفيف على تحريم الضرب بل يكون ذلك أسبق إلى الفهم من التأفيف المذكور، إذا التأفيف لا يكون مقصودا في نفسه بل يقصد به التنبيه على منع الايذاء بذكر أقل درجاته‏.‏ وكذلك النقير والقطمير والذرة والدينار لا يدل بمجرد اللفظ على ما فوقه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره‏}‏ ‏(‏الزلزلة‏:‏ 7‏)‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 57‏)‏ وفي قوله‏:‏ والله ما شربت لفلان جرعة، ولا أخذت من ماله حبة، بل بقرينة دفع المنة وإظهار جزاء العمل، وليس إلحاق الضرب بالتأفيف أيضا بطريق القياس، لان الفرع المسكوت عنه الملحق بطريق القياس هو الذي يتصور أن يغفل عنه المتكلم ولا يقصده بكلامه وهاهنا المسكوت عنه هو الأصل في القصد الباعث على النطق بالتأفيف، وهو الاسبق إلى فهم السامع، فهذا مفهوم من لحن القول وفحواه، وعند ظهور القرينة المذكورة ربما تظهر قرينة أخرى تمنع هذا الفهم، إذا الملك قد يقتل أخاه المنازع له، فيقول للجلاد‏:‏ اقتله ولا تهنه ولا تقل له أف، أما تحريم النبيذ بتحريم الخمر فليس من هذا بالقبيل، بل لا وجه له إلا القياس، فإذا لم يرد التعبد بالقياس، فقوله حرمت الخمر لشدتها، لا يفهم تحريم النبيذ، بخلاف قوله‏:‏ حرمت كل مشتد‏.‏

مسألة ‏(‏تخصيص القياس‏)‏

ذهب القاشاني والنهرواني إلى الاقرار بالقياس لاجل إجماع الصحابة، لكن خصصوا ذلك بموضعين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن تكون العلة منصوصة، كقوله‏:‏ حرمت الخمر لشدتها وفإنها من الطوافين عليكم والطوافات‏.‏ الثاني‏:‏ الاحكام المعلقة بالاسباب، كرجم ماعز لزناه، وقطع سارق رداء صفوان، وكأنهم يعنون بهذا الجنس تنقيح مناط الحكم ويعترفون به‏.‏ قلنا‏:‏ هذا المذهب يمكن تنزيله على ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أن يشترطوا مع هذا أن يقول‏:‏ وحرمت كل مشارك للخمر في الشدة، ويقول في رجم ماعز‏:‏ وحكمي على الواحد حكمي على الجماعة فهذا ليس قولا بالقياس بل بالعموم، فلا يحصل التقصي به عن عهدة الإجماع المنعقد من الصحابة على القياس‏.‏ الثاني‏:‏ أن لا يشترط هذا ولا يشترط أيضا ورود التعبد بالقياس، فهذه زيادة علينا، وقول بالقياس حيث لا نقول به كما رددناه على النظام‏.‏ الثالث‏:‏ أن يقول‏:‏ مهما ورد التعبد بالقياس جاز الالحاق بالعلة المنصوصة، فهذا قول حق في الأصل، خطأ في الحصر، فإنه قصر طريق إثبات علة الأصل على النص، وليس مقصورا عليه، بل ربما دل عليه السبر والتقسيم أو دليل آخر، وما لم يدل عليه دليل فنحن لا نجوز الجمع بين الفرع والأصل، ولا فرق بين دليل ودليل‏.‏ فإن قيل إذا كانت العلة منصوصة كان الحكم في الفرع معلوما ولم يكن مظنونا، وحصل الامن من الخطأ، وإن كانت مستنبطة لم يؤمن الخطأ‏؟‏ قلنا‏:‏ أخطأتم في طرفي الكلام حيث ظننتم حصول الامن بالنص، وإمكان الخطأ عند عدم النص، فإن وإن نص على شدة الخمر فلا نعلم قطعا أن شدة النبيذ في معناها، بل يجوز أن يكون معللا بشدة الخمر خاصة إلا أن يصرح ويقول يتبع الحكم مجرد الشدة في كل محل فيكون ذلك لفظا عاما، ولا يكون حكما بالقياس، فلا يحصل التقصي عن عهدة الإجماع، وإذا لم يصرح فنحن نظن أن النبيذ في معناه ولا نقطع، فللظن مثاران في العلة المستنبطة‏:‏ أحدهما‏:‏ أصل العلة، والآخر إلحاق الفرع بالأصل، فإنه مشروط بانتفاء الفوارق، وفي العلة المنصوصة مثار الظن واحد، وهو إلحاق الفرع لانه مبني على الوقوف على جميع أوصاف علة الأصل، وأنه الشدة بمجردها دون شدة الخمر، وذلك لا يعلم إلا بنص يوجب عموم الحكم ويدفع الحاجة إلى القياس‏.‏ أما قوله في العلة المستنبطة أنه لا يؤمن فيها الخطأ فهذا لا يستقيم على مذهب من يصوب كل مجتهد، إذ شهادة الأصل للفرع عنده كشهادة العدل عند القاضي، والقاضي في أمن من الخطأ وإن كان الشاهد مزورا، لانه لم يتعبد باتباع الصدق، بل باتباع ظن الصدق، وكذلك هاهنا لم يتعبد باتباع العلة بل باتباع ظن العلة وقد تحقق الظن‏.‏ نعم‏:‏ هذا الاشكال متوجه على من يقول المصيب واحد، لانه لا يأمن الخطأ، ولا دليل يميز الصواب عن الخطأ، إذ لو كان عليه دليل لكان آثما إذا أخطأ كما في العقليات، ثم نقول‏:‏ إن محملهم على الاقرار بهذا القياس إجماع الصحابة، ولم يقتصر قياسهم على العلة المنصوصة إذ قاسوا في قوله‏:‏ أنت علي حرام وفي مسألة الجد والاخوة، وفي تشبيه حد الشرب بحد القذف لما فيه من خوف الافتراء والقذف أوجب ثمانين جلدة، لانه نفس الافتراء لا الخوف من الافتراء، ولكنهم رأوا الشارع في بعض المواضع أقام مظنة الشئ مقام نفسه، فشبهوا هذا به بنوع من الظن هو في غاية الضعف، فدل أنهم لم يطلبوا النص ولا القطع، بل اكتفوا بالظن، ثم نقول‏:‏ إذا جاز القياس بالعلة المعلومة فلنلحق بها المظنونة في حق العمل، كما لتحق رواية العدل بالتواتر وشهادة العدل بشهادة النبي عليه السلام المعصوم، والقبلة المظنونة بالقبلة المعاينة، وهذا فيه نظر لانا وإن أثبتنا خبر الواحد وقبول الشهادة بأدلة قاطعة فقبول الشرع الظن في موضع لا يرخص لنا في قياس ظن آخر عليه، بل لا بد من دليل على القياس المظنون كما في خبر الواحد وغيره‏.‏

مسألة ‏(‏التفريق بين الفعل والترك‏)‏

فرق بعض القدرية الفعل والترك، فقال‏:‏ إذا علل الشارع وجوب فعل بعلة فلا يقاس عليه غيره إلا بتعبد بالقياس، ولو علل تحريم الخمر بعلة وجب قياس النبيذ عليه دون التعبد بالقياس، لان من ترك العسل لحلاوته لزمه أن يترك كل حلو ومن ترك الخمر لاسكاره لزمه أن يترك كل مسكر‏.‏ أما من شرب العسل لحلاوته فلا يلزمه أن يشرب كل حلو، ومن صلى لانها عبادة لا يلزمه أن يأتي بكل عبادة، وبنوا على هذا أن التوبة لا تصح من بعض الذنوب، بل من ترك ذنبا لكونه معصية لزمه ترك كل ذنب، أما من أتى بعبادة لكونها طاعة فلا يلزمه أن يأتي بكل طاعة، وهذا محال في الطرفين، لانه لا يبعد في جانب التحريم أن يحرم الخمر لشدة الخمر خاصة، ويفرق بين شدة الخمر وشدة النبيذ‏.‏ وأما في جانب الفعل فمن تناول العسل لحلاوته ولفراغ معدته وصدق شهوته لا يفرق بين عسل وعسل، نعم لا يلزمه أن يأكل مرة بعد أخرى لزوال الشهوة وامتلاء المعدة واختلاف الحال، فما ثبت للشئ ثبت لمثله، كان ذلك في ترك أو فعل لكن المثل المطلق لا يتصور إذا الاثنينية شرط المثلية، ومن شرط الاثنينية مغايرة ومخالفة، وإذا جاءت المخالفة بطلت المماثلة، وهذا له غور وليس هذا موضع بيانه‏.‏ هذا تمام النظر في إثبات أصل القياس على منكريه‏.‏

الباب الثاني في طريق إثبات علة الأصل وكيفية إقامة الدلالة على صحة آحاد الاقيسة

وننبه في صدر الكتاب على مثارات الاحتمال في كل قياس، إذ لا حاجة إلى الدليل إلا في محل الاحتمال، ثم على انحصار الدليل في الأدلة السمعية، ثم على انقسام الأدلة السمعية إلى ظنية وقطعية، فهذه ثلاث مقدمات‏.‏ المقدمة الأولى في مواضع الاحتمال من كل قياس وهي ستة‏:‏ الأول‏:‏ يجوز أن لا يكون الأصل معلولا عند الله تعالى، فيكون القائس قد علل ما ليس بمعلل‏.‏ الثاني‏:‏ أنه إن كان معللا فلعله لم يصب ما هو العلة عند الله تعالى، بل علله بعلة أخرى‏.‏ الثالث‏:‏ أنه إن أصاب في أصل التعليل وفي عين العلة فلعله قصر على وصفين أو ثلاثة، وهو معلل به مع قرينة أخرى زائدة على ما قصر اعتباره عليه‏.‏ الرابع‏:‏ أن يكون قد جمع إلى العلة وصفا ليس مناطا للحكم فزاد على الواحد‏.‏ الخامس‏:‏ أن يصيب في أصل العلة وتعيينها وضبطها لكن يخطئ في وجودها في الفرع، فيظنها موجودة بجميع قيودها وقرائنها ولا تكون كذلك‏.‏ السادس‏:‏ أن يكون قد استدل على تصحيح العلة بما ليس بدليل، وعند ذلك لا يحل له القياس وإن أصاب العلة، كما لو أصاب بمجرد الوهم والحدس من غير دليل، وكما لو ظن القبلة في جهة من غير اجتهاد فصلى، فإنه لا تصح الصلاة، وزاد آخرون احتمالا سابعا وهو الخطأ في أصل القياس، إذا يحتمل أن يكون أصل القياس في الشرع باطلا، وهذا خطأ لان صحة القياس ليس مظنونا بل هو مقطوع به، ولو تطرق إليه احتمال التطرق إلى جميع القطعيات من التوحيد والنبوة وغيرهما والمثارات الستة لاحتمال الخطأ‏:‏ إنما تستقيم على مذهب من يقول المصيب واحد وفي موضع يقدر نصب الله تعالى أدلة قاطعة يتصور أن يحيط بها الناظر‏.‏ أما من قال‏:‏ كل مجتهد مصيب، فليس في الأصل وصف معين هو العلة عند الله تعالى حتى يخطئ أصلها أو وصفها، بل العلة عند الله تعالى في حق كل مجتهد ما ظنه علة فلا يتصور الخطأ، ولكنه على الجملة يحتاج إلى إقامة الدليل في هذه وإن كانت أدلة ظنية‏.‏ المقدمة الثانية إن هذه الأدلة لا تكون إلا سمعية، بل لا مجال للنظر العقلي في هذه المثارات إلا في تحقيق وجود علة الأصل في الفرع، فإن العلة إذا كانت محسوسة كالسكر والطعم والطوف في السؤر، فوجود ذلك في النبيذ والارز والفأرة قد يعلم بالحس وبالأدلة العقلية، أما أصل تعليل الحكم وإثبات عين العلة ووصفها فلا يمكن إلا بالأدلة السمعية لان العلة الشرعية علامة وأمارة لا توجب الحكم بذاتها إنما معنى كونها علة نصب الشرع إياها علامة، وذلك وضع من الشارع، ولا فرق بين وضع الحكم وبين وضع العلامة ونصبها أمارة على الحكم، فالشدة التي جعلت أمارة التحريم يجوز أن يجعلها الشرع أمارة الحل، فليس إيجابها لذاتها، ولا فرق بين قوله الشارع‏:‏ راجموا ماعزا، وبين قوله‏:‏ جعلت الزنا علامة إيجاب الرجم، فإن قيل‏:‏ فالحكم لا يثبت إلا توقيفا ونصا فلتكن العلة كذلك، قلنا‏:‏ لا يثبت الحكم إلا توقيفا لكن ليس طريق معرفة التوقيف في الاحكام مجرد النص بل النص والعموم والفحوى ومفهوم القول وقرائن الاحوال وشواهد الاصول وأنواع الأدلة، فكذلك إثبات العلة تتسع طرقه ولا يقتصر فيه على النص‏.‏ المقدمة الثالثة إن الحاق المسكوت بالمنطوق ينقسم إلى مقطوع ومظنون، والمقطوع به على مرتبتين‏:‏ إحداهما‏:‏ أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به، كقوله‏:‏ ‏(‏لا تقل لهما أف‏}‏ ‏[‏ الاسراء‏:‏ 32 ‏]‏ فإنه أفهم تحريم الضرب والشتم، وكقوله عليه السلام أدوا الخيط والمخيط فإنه أفهم تحريم الغلول في الغنيمة بكل قليل وكثير، وكنهيه عن الضحية بالعوراء والعرجاء، فإنه أفهم المنع من العمياء ومقطوعة الرجلين، وكقوله‏:‏ العينان وكاء السه فإذا نامت العينا استطلق الوكاء، فإن الجنون والاغماء والسكر وكل ما أزال العقل أولى به من النوم، وقد اختلفوا في تسمية هذا قياسا وتبعد تسميته قياسا، لانه لا يحتاج فيه إلى فكر واستنباط علة، ولان المسكوت عنه هاهنا كأنه أولى بالحكم من المنطوق به ومن سماه قياسا اعترف بأنه مقطوع به، ولا مشاحة في الاسامي، فمن كان القياس عنده عبارة عن نوع من الالحاق يشمل هذه الصورة، فإنما مخالفته في عبارة، وهذا الجنس قد يلتحق بأذياله ما يشبهه من وجه، ولكنه يفيد الظن دون العلم، كقولهم‏:‏ إذا جبت الكفارة في قتل الخطأ فبأن تجب في العمد أولى، لان فيه ما فيه الخطأ وزيادة عدوان، وإذا ردت شهادة الفاسق فالكافر أولى، لان الكفر فسق وزيادة، وإذا أخذت الجزية من الكتابي فمن الوثني أولى، لانه كافر مع زيادة جهل، وهذا يفيد الظن في حق بعض المجتهدين، وليس من جنس الأول بل جنس الأول أن يقول إذا قبلت شهادة اثنين فشهادة الثلاثة أولى‏.‏ وهو مقطوع به لانه وجد فيه الأول وزيادة‏.‏ والعمياء عوراء مرتين، ومقطوع الرجلين أعرج مرتين، فأما العمد فيخالف الخطأ، فيجوز أن لا تقوى الكفارة على محوه بخلاف الخطأ، بل جنس الأول قولنا‏:‏ من واقع أهله في نهار رمضان فعليه الكفارة‏.‏ فالزاني به أولى إذ وجد في الزنا إفساد الصوم بالوطئ وزيادة ولم يوجد في العمد الخطأ وزيادة، وكذلك االوثنى، لبدليل أنه لو وقع التصريح بالفرق بين هذه المسائل لم تنفر النفس عن قبوله، ولو قيل‏:‏ تجزئ العمياء دون العوراء أو تقبل شهادة اثنين ولا تقبل شهادة ثلاثة‏.‏ كان ذلك مما تنفر النفس عن قبوله وإنما نفرت النفس عن قبوله لما علم قطعا من أن منع العوراء لاجل نقصانها، وقبول شهادة اثنين لظهور صدق الدعوى وتحريم التأفيف لاكرام الآباء، فمع فهم هذه المعاني يتناقض الفرق، ولم يفهم مثل ذلك من قتل الخطأ وشهادة الكافر وجزية الوثني‏.‏ المرتبة الثانية‏:‏ ما يكون المسكوت عنه مثل المنطوق به، ولا يكون أولى منه ولا هو دونه، فيقال إنه في معنى الأصل، وربما اختلفوا في تسميته قياسا، ومثاله قوله‏:‏ من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي فإن الامة في معناه‏.‏ وقوله‏:‏ أيما رجل أفلس أو مات فصاحب المتاع أحق بمتاعه فالمرأة في معناه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعليهن نصف من على المحصنات من العذاب‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 52‏)‏ فالعبد في معناها، وقوله عليه السلام‏:‏ من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع فإن الجارية في معناه، وقوله في موت الحيوان في السمن أنه يراق المائع ويقور ما حوالي الجامد، أن العسل لو كان جامدا في معناه، وهذا جنس يرجع حاصله إلى العلم بأن الفارق بين المسكوت عنه والمنطوق به لا مدخل له في التأثير في جنس ذلك الحكم، وإنما يعرف أنه لا مدخل له في التأثير باستقراء أحكام الشرع وموارده ومصادره في ذلك الجنس حتى يعلم أن حكم الرق والحرية ليس يختلف بذكورة وأنوثة، كما لا يختلف بالبياض والسواد والطول والقصر والحسن والقبح فلا يجري هذا في جنس من الحكم تؤثر الذكورة فيه والانوثة، كولاية النكاح والقضاء والشهادة وأمثالها، وضابط هذا الجنس أن لا يحتاج إلى التعرض للعلة الجامعة، بل يتعرض للفارق ويعلم أنه لا فارق إلا كذا، ولا مدخل له في التأثير قطعا، فإن تطرق الاحتمال إلى قولنا‏:‏ لا فارق إلا كذا بأن احتمل أن يكون ثم فارق آخر وتطرق الاحتمال إلى قولنا لا مدخل له في التأثير بأن احتمل أن يكون له مدخل، لم يكن هذا الالحاق مقطوعا به، بل ربما كان مظنونا‏.‏ ويتعلق بأذيال هذا الجنس ما هو مظنون، كقولنا إنه لو أضاف العتق إلى عضو معين سرى، فإنه إذا أضاف إلى النصف سرى لانه بعض، واليد بعض، وهذا يغلب على ظن بعض المجتهدين، ومساواة البعض المعين للبعض الشائع في هذا الحكم غير مقطوع به، لان هذا النوع من المفارقة لا يبعد أن يكون له مدخل في التأثير‏.‏ ومن هذا الجنس ما يتعلق بتنقيح مناط الحكم، كقوله للاعرابي الذي جامع امرأته في رمضان أعتق رقبة فإنا نعلم أن التركي والهندي في معنى العربي إذ علمنا أن ذلك لا مدخل له في الحكم، ويعلم أن العبد في معنى الحر فيلزمه الصوم، لانه شاركه في وجوب الصوم، ولا نرى الصبي في معناه لانه لا يشاركه في اللزوم، وللزوم مدخل في التأثير، وإن نظرنا إلى المحل فقد واقع أهله، فيعلم أنه لو واقع مملوكته فهو في معناه، بل لو زنى بامرأة فهو بالكفارة أولى، أما اللواط وإتيان البهيمة والمرأة الميتة هل هو في معناه‏؟‏ ربما يتردد فيه، والاظهر أن اللواط في معناه، وإن نظرنا إلى الصوم المجني عليه فقد جرى وقاع الاعرابي في يوم معين وشهر معين، فيعلم أن سائر الايام في ذلك الشهر، وسائر شهور رمضان في معناه، والقضاء والنذر ليس في معناه لان حرمة رمضان أعظم، فهتكها أفحش، وللحرمة مدخل في جنس هذا الحكم، وإن نظرنا إلى نفس هذا الفعل فهل يلتحق به الاكل والشرب وسائر المفطرات، هذا في محل النظر، إذ يحتمل أن يقال‏:‏ إنما وجبت الكفارة لتفويت الصوم، والوطئ آلته، كما يجب القصاص لتفويت الدم ثم السيف والسكين وسائر الآلات على وتيرة واحدة‏.‏ ويحتمل أن يقال‏:‏ الكفارة زجر ودواعي الوقاع لا تنخنس بمجرد وازع الدين فافتقر إلى كفارة زاجرة، بخلاف داعية الاكل، وهذه ظنون تختلف بالاضافة إلى المجتهدين، وهل يسمى إلحاق الاكل ههنا بالجماع قياسا‏؟‏ اختلفوا فيه فقال أصحاب أبي حنيفة‏:‏ لا قياس في الكفارات، وهذا استدلال وليس بقياس، بل هو استدلال على تجريد مناط الحكم وحذف الحشو منه، ولفظة القياس اصطلاح للفقهاء، فيختلف إطلاقها بحسب اختلافهم في الاصطلاح، فلست أرى الاطناب في تصحيح ذلك أو إفساده لان أكثر تدوار النظر لا فيه على اللفظ، وعلى الجملة فلا يظه بالظاهر في المنكر للقياس إنكار المعلوم، والمقطوع به من هذه الالحاقات، لكن لعله ينكر المظنون منه ويقول‏:‏ ما علم قطعا أنه لا مدخل له في التأثير، فه كاختلاف الزمان والمكان والسواد والبياض والطوال والقصر فيجب حذفه عن درجة الاعتبار‏.‏ أما ما يحتمل فلا يجوز حذفه بالظن، وإذا بان لنا إجماع الصحابة أنهم عملوا بالظن كان ذلك دليلا على نزول الظن منزلة العلم في وجوب العمل، لان المسائل التي اختلفوا فيها واجتهدوا، كمسألة الحرام ومسألة الجد وحد الخمر والمفوضة وغيرها من المسائل ظنية وليست قطعية، وعلى الجملة‏:‏ فلالحاق المسكوت عنه بالمنطوق طريقان متباينان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن لا يتعرض إلا للفارق وسقوط أثره فيقول‏:‏ لا فارق إلا كذا وهذه مقدمة، ثم يقول‏:‏ ولا مدخل لهذا الفارق في التأثير، وهذه مقدمة أخرى، فيلزم منه نتيجة وهو أنه لا فرق في الحكم، وهذا إنما يحسن إذا ظهر التقارب بين الفرع والأصل، كقرب الامة من العبد، لانه لا يحتاج إلى التعرض للجامع لكثرة ما فيه من الاجتماع‏.‏ الطريق الثاني‏:‏ أن يتعرض للجامع ويقصد نحوه، ولا يلتفت إلى الفوارق وإن كثرت، ويظهر تأثير الجامع في الحكم فيقول‏:‏ العلة في الأصل كذا، وهي موجودة في الفرع، فيجب الاجتماع في الحكم، وهذا هو الذي يسمى قياسا بالاتفاق‏.‏ أما الأول‏:‏ ففي تسميته قياسا خلاف لان القياس ما قصد به الجمع بين شيئين، وذلك قصد فيه نفي الفرق، فحصل الاجتماع بالقصد الثاني لا بالقصد الأول، فلم يكن على صورة المقايسة بالاضافة إلى القصد الأول والطريق الأول الذي هو التعرض للفارق ونفيه ينتظم حيث لم تعرف علة الحكم، بل ينتظم في حكم لا يعلل وينتظم حيث عرف أنه معلل، لكن لم تتعين العلة، فإنا نقول‏:‏ الزبيب في معنى التمر في الربا قبل أن يتعين عندنا علة الربا أنه الطعم أو الكيل أو القوت، وينتظم حيث ظهر أصل العلة وتعين أيضا ولكن لم تتلخص بعد أوصافه ولم تتحرر بعد قيوده وحدوده‏.‏ أما الطريق الثاني وهو الجمع فلا يمكن إلا بعد تعين العلة وتلخيصها بحدها وقيودها وبيان تحقيق وجودها بكمالها في الفرع، وكل واحد من الطريقين ينقسم إلى مقطوع به وإلى مظنون، فإذا تمهدت هذه المقدمات فيرجع إلى المقصود وهو بيان إثبات العلة في الطريق الثاني الذي هو القياس بالاتفاق، وهو رد فرع إلى أصل بعلة جامعة بينهما، وهذا القياس يحتاج إلى إثبات مقدمتين‏:‏ إحداهما‏:‏ مثلا أن علة تحريم الخمر الاسكار‏.‏ والثانية‏:‏ أن الاسكار موجود في النبيذ، أما الثانية فيجوز أن تثبت بالحس ودليل العقل والعرب وبدليل الشرع وسائر أنواع الأدلة، أما الأولى فلا تثبت إلا بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع، أو نوع استدلال مستنبط، فإن كون الشدة علامة التحريم وضع شرعي، كما أن نفس التحريم كذلك وطريقه طريقه، وجملة الأدلة الشرعية ترجع إلى ألفاظ الكتاب والسنة والإجماع والاستنباط، فنحصره في ثلاث أقسام‏:‏

القسم الأول إثبات العلة بأدلة نقلية

وذلك إنما يستفاد من صريح النطق أو من الايماء أو من التنبيه على الاسباب، وهي ثلاثة أضرب‏:‏ الضرب الأول‏:‏ الصريح، وذلك أن يرد فيه لفظ التعليل، كقوله لكذا أو لعلة كذا أو لاجل كذا، أو لكيلا يكون كذا، وما يجري مجراه من صيغ التعليل، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم‏}‏ ‏(‏الحشر‏:‏ 7‏}‏ ‏(‏من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 23‏)‏ و ‏{‏ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله‏}‏ ‏(‏الانفال‏:‏ 31‏)‏ وقوله عليه السلام‏:‏ إنما جعل الاستئذان لاجل البصر وإنما نهيتكم لاجل الدافة فهذه صيغ التعليل، إلا إذا دل دليل على أنه ما قصد التعليل فيكون مجازا كما يقال‏:‏ لم فعلت‏؟‏ فيقول لاني أردت أن أفعل، فهذا لا يصح أن يكون علة، فهو استعمال اللفظ في غير محله‏.‏ قال القاضي‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أقم الصلاة لدلوك الشمس‏}‏ ‏(‏الاسراء‏:‏ 87‏)‏ من هذا الجنس، لان هذا لام التعليل، والدلوك لا يصلح أن يكون علة، فمعناه‏:‏ صل عنده، فهو للتوقيت، وهذا فيه نظر إذ الزوال والغروب لا يبعد أن ينصبه الشرع علامة للوجوب، ولا معنى لعلة الشرع إلا العلامة المنصوبة، وقد قال الفقهاء‏:‏ الاوقات أسباب، ولذلك يتكرر الوجوب بتكررها ولا يبعد تسمية السبب علة‏.‏ الضرب الثاني‏:‏ التنبيه والايماء على العلة‏:‏ كقوله عليه السلام لما سئل عن الهرة إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات فإنه وإن لم يقل لانها أو لاجل أنها من الطوافين لكن أومأ إلى التعليل لانه لو لم يكن علة لم يكن ذكر وصف الطواف مفيدا، فإنه لو قال‏:‏ إنها سوداء أو بيضاء، لم يكن منظوما إذ لم يرد التعليل، وكذلك قوله‏:‏ فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا وإنهم يحشرون وأوداجهم تشخب دما وقوله جل جلاله‏:‏ ‏{‏إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 19‏)‏ فإنه بيان لتعليل تحريم الخمر حتى يطرد في كل مسكر، وكذلك ذكر الصفة قبل الحكم، كقوله‏:‏ ‏{‏قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 222‏)‏ فهو تعليل حتى يفهم منه تحريم الاتيان في غير المأتي، لان الاذى فيه دائم، ولا يجري في المستحاضة، لان ذلك عارض وليس بطبيعي، وكذلك قوله‏:‏ تمرة طيبة وماء طهور فإن ذلك لو لم يكن تعليلا لاستعماله لما كان الكلام واقعا في محله، وهو الذي يدل على أنه كان ماء نبذ فيه تميرات، فيقاس عليه الزبيب و غيره ولا يقاس عليه المرقة والعصيدة وما انقلب شيئا آخر بالطبخ، وكذلك قوله عليه السلام‏:‏ أينقص الرطب إذا يبس‏؟‏ فقيل‏:‏ نعم، فقال فلا إذا ففيه تنبيه على العلة من ثلاثة أوجه‏.‏ أحدها‏:‏ أنه لا وجه لذكر هذا الوصف لولا التعليل به‏.‏ الثاني‏:‏ قوله‏:‏ إذا فإنه للتعليل‏.‏ الثالث‏:‏ الفاء في قوله‏:‏ فلا إذا فإنه للتعقيب والتسبيب، ومن ذلك أن يجيب عن المسألة بذكر نظيرها كقوله‏:‏ أرأيت لو تمضمضت أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه‏؟‏ فإنه لو لم يكن للتعليل لما كان التعرض لغير محل السؤال منتظما ومن ذلك أن يفصل الشارع بين قسمين بوصف ويخصه بالحكم، كقول القائل‏:‏ القاتل لا يرث، فإنه يدل في الظاهر على أنه لا يرث لكونه قاتلا، وليس هذا للمناسبة، بل لو قال‏:‏ الطويل لا يرث أو الاسود لا يرث لكنا نفهم منه جعله الطول والسواد علامة على انفصاله عن الورثة فهذا وأمثاله مما يكثر، ولا يدخل تحت الحصر، فوجوه التنبيه لا تنضبط، وقد أطنبنا في تفصيلها في كتاب شفاء الغليل‏.‏ وهذا القدر كاف ههنا‏.‏ الضرب الثالث‏:‏ التنبيه على الاسباب بترتيب الاحكام عليها بصيغة الجزاء والشرط وبالفاء التي هي للتعقيب والتسبيب، كقوله عليه السلام‏:‏ من أحيا أرضا ميتة فهي له ومن بدل دينه فاقتلوه وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كانوا‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 38‏)‏ و ‏{‏الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما‏}‏ ‏(‏النور‏:‏ 2‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلم تجدوا ماء فتيمموا‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 6‏)‏ ويلتحق بهذا القسم ما يرتبه الراوي بفاء الترتيب كقوله‏:‏ زنى ماعز فرجم، وسها النبي فسجد، ورضخ يهودي رأس جارية فرضخ النبي رأسه، فكل هذا يدل على التسبيب، وليس للمناسبة، فإن قوله‏:‏ من مس ذكره فليتوضأ يفهم منه السبب، وإن لم يناسب، بل يلتحق بهذا الجنس كل حكم حدث عقيب وصف حادث سواء كان من الاقوال كحدوث الملك والحل عند البيع والنكاح والتصرفات، أو من الافعال كاشتغال الذمة عند القتل والاتلاف، أو من الصفات، كتحريم الشرب عند طريان الشدة على العصير وتحريم الوطئ عند طريان الحيض فإنه ينقدح أن يقال‏:‏ لا يتجدد إلا بتجدد سبب ولم يتجدد إلا هذا، فإذا هو السبب، وإن لم يناسب‏.‏ فإن قيل‏:‏ فهذه الوجوه المذكورة تدل على السبب، والعلة دلالة قاطعة أو دلالة ظنية‏؟‏ قلنا‏:‏ أما ما رتب على غيره بفاء الترتيب وصيغة الجزاء والشرط فيدل على أن المرتب عليه معتبر في الحكم لا محالة، فهو صريح في أصل الاعتبار‏.‏ أما اعتباره بطريق كونه علة أو سببا متضمنا للعلة بطريق الملازمة والمجاورة أو شرطا يظهر الحكم عنده بسبب آخر، أو يفيد الحكم على تجرده حتى يعم الحكم المحال أو يضم إليه وصف آخر حتى يختص ببعض المحال، فمطلق الاضافة من الالفاظ المذكورة ليس صريحا فيها، ولكن قد يكون ظاهرا من وجه ويحتمل غيره، وقد يكون مترددا بين وجهين فيتبع فيه موجب الأدلة وإنما الثابت بالايماء، والتنبيه كون الوصف المذكور معتبرا بحيث لا يجوز إلغاؤه، مثال هذا قوله عليه السلام‏:‏ لا يقض القاضي وهو غضبان وهو تنبيه على أن الغضب علة في منع القضاء، لكن قد يتبين بالنظر أنه ليس علة لذاته، بل لما يتضمنه من الدهشة المانعة من استيفاء الفكر حتى يلحق به الجائع والحاقن والمتألم فيكون الغضب مناطا لا لعينه بل لمعنى يتضمنه‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ سها فسجد، يحتمل أن يكون السبب هو السهو لعينه ويحتمل أن يكون لما يتضمنه من ترك أبعاض الصلاة، حتى لو تركه عمدا ربما قيل يسجد أيضا، وكذلك قوله‏:‏ زنى ما عز فرجم، احتمل أن يكون لانه زنى، واحتمل أن يكون لما يتضمنه الزنا من إيلاج فرج في فرج محرم قطعا مشتهى طبعا، حتى يتعدى إلى اللواط‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ من جامع في نهار رمضان فعليه ما على المظاهر يحتمل أن يكون لنفس الجماع، ويحتمل أن يكون لما يتضمنه من هتك حرمة الشهر، ويحتمل أن يكون لما يتضمنه من إفساد الصوم، حتى يتعدى إلى الاكل، والظاهر الاضافة إلى الأصل ومن صرفه عن الأصل إلى ما يتضمنه من إفساد الصوم حتى يتعدى إلى الاكل افتقر إلى دليل‏.‏ وهذا النوع من التصرف غير منقطع عن هذه الاضافات‏.‏ فهذا ظاهر في الاضافات اللفظية إيماء كان أو صريحا‏.‏ أما ما يحدث بحدوث وصف كحدوث الشدة ففي إضافة الحكم إليه نظر سيأتي في الطرد والعكس‏.‏

القسم الثاني في إثبات العلة بالإجماع على كونها مؤثرة في الحكم

مثاله قولهم‏:‏ إذا قدم الاخ من الاب والام على الاخ للاب في الميراث، فينبغي أن يقدم في ولاية النكاح فإن العلة في الميراث التقديم بسبب امتزاج الاخوة، وهو المؤثر بالاتفاق، وكذلك قول بعضهم‏:‏ الجهل بالمهر يفسد النكاح، لانه جهل بعوض في معاوضة، فصار كالبيع، إذ الجهل مؤثر في الافساد في البيع بالاتفاق وكذلك نقول‏:‏ يجب الضمان على السارق وإن قطع لانه مال تلف تحت اليد العارية فيضمن، كما في الغصب وهذا الوصف هو المؤثر في الغصب اتفاقا، وكذلك يقول الحنفي‏:‏ صغيرة فيولي عليها قياسا لثيب الصغيرة على البكر الصغيرة، فالمطالبة منقطعة عن إثبات علة الأصل، لانها بالاتفاق مؤثرة‏.‏ ويبقى سؤال وهو أن يقال‏:‏ لم قلتم إذا أثر امتزاج الاخوة في التقديم في الارث فينبغي أن يؤثر في النكاح‏؟‏ وإذا أثر الصغر في البكر فهو يؤثر في الثيب، وهذا السؤال إما أن يوجهه المجتهد على نفسه أو يوجهه المناظر في المناظرة، أما المجتهد فيدفعه بوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يعرف مناسبة المؤثر كالصغر، فإنه يسلط الولي على التزويج للعجز، فنقول‏:‏ الثيب كالبكر في هذه المناسبة‏.‏ الثاني‏:‏ أن يتبين أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا كذا وكذا، ولا مدخل له في التأثر كما ذكرناه في إلحاق الامة بالعبد في سراية العتق ونظائره، فيكون هذا القياس تمامه بالتعرض للجامع ونفي الفارق جميعا، وإن ظهرت المناسبة استغنى عن التعرض للفارق، وإن كان السؤال من مناظر فيكفي أن يقال‏:‏ القياس لتعدية حكم العلة من موضع إلى موضع وما من تعدية إلا ويتوجه عليها هذا السؤال، فلا ينبغي أن يفتح هذ الالباب، بل يكلف المعترض الفرق أو التنبيه على مثار خيال الفرق بأن يقول مثلا‏:‏ إخوة الام أثرت في الميراث في الترجيح، لان مجردها يؤثر في التوريث، فلم قلت‏:‏ إذا استعمل في الترجيح ما يستقل بالتأثير فيستعمل حيث لا يستقل، فتقبل المطالبة على هذه الصيغة، وهي أولى من إبدائه في معرض الفرق ابتداء، أما إذا لم ينبه على مثار خيال الفرق وأصر على صرف المطالبة فلا ينبغي أن يصطلح المناظرون على قبوله، لانه يفتح بابا من اللجاج لا ينسد، ولا يجوز إرهافه إلى طلب المناسبة فإن ما ظهر تأثيره بإضافة الحكم إليه، فهو علة ناسب أو لم يناسب، فقد قال عليه السلام‏:‏ من مس ذكره فليتوضأ فنحن نقيس عليه ذكر غيره ولا مناسبة، ولكن نقول‏:‏ ظهر تأثير المس ولا مدخل للفارق في التأثير، فإنه وإن ظهر مناسبته أيضا فيجوز أن يختص اعتبار المناسب ببعض المواضع، إذ السرقة تناسب القطع ثم تختص بالنصاب، والزنا يناسب الرجم ثم يختص بالمحصن، فيتوجه على المناسب أيضا أن يقول‏:‏ لم قلت إذا أثر هذا المناسب وهو الصغر في ولاية المال فينبغي أن يؤثر في ولاية البضع، وإذا أثر في البكر يؤثر في الثيب، وإذا أثر في التزويج من الابن يؤثر في التزويج من البنت ومن المناسبات ما يختص ببعض المواضع، وهذا السؤال يستمد من خيال منكري القياس، فلا ينبغي أن يقبل‏.‏

القسم الثالث في إثبات العلة بالاستنباط وطرق الاستدلال

وهي أنواع‏:‏ النوع الأول‏:‏ السبر والتقسيم‏:‏ وهو دليل صحيح، وذلك بأن يقول هذا الحكم معلل، ولا علة له إلا كذا أو كذا، وقد بطل أحدهما فتعين الآخر، وإذا استقام السبر كذلك فلا يحتاج إلى مناسبة، بل له أن يقول‏:‏ حرم الربا في البر، ولا بد من علامة تضبط مجرى الحكم عن موقعه، ولا علامة إلا الطعم أو القوت أو الكيل، وقد بطل القوت والكيل بدليل كذا وكذا، فثبت الطعم، لكن يحتج ههنا إلى إقامة الدليل على ثلاثة أمور‏.‏ أحدها‏:‏ أنه لا بد من علامة، إذ قد يقال‏:‏ هو معلوم باسم البر، فلا يحتاج إلى علامة وعلة فنقول‏:‏ ليس كذلك، لان إذا صار دقيقا وخبزا وسويقا نفى حكم الربا وزال اسم البر، فدل أن مناط الربا أمر أعم من اسم البر‏.‏ الثاني‏:‏ أن يكون سبره حاصرا، فيحصر جميع ما يمكن أن يكون علة أما بأن يوافقه الخصم على أن الممكنات ما ذكره، وذلك ظاهر أو لا يسلم، فإن كان يسلم، فإن كان مجتهدا فعليه سبر بقدر إمكانه حتى يعجز عن إيراد غيره، وإن كان مناظرا فيكفيه أن يقول‏:‏ هذا منتهى قدرتي في السبر فإن شاركتني في الجهل بغيره لزمك ما لزمني، وإن أطلعت على علة أخرى فيلزمك التنبيه عليها حتى أنظر في صحتها أو فسادها‏.‏ فإن قال‏:‏ لا يلزمني ولا أظهر العلة وإن كنت أعرفها، فهذا عناد محرم، وصاحبه إما كاذب وإما فاسق بكتمان حكم مست الحاجة إلى إظهار، ومثل هذا الجدل حرام وليس من الدين، ثم إفساد سائر العلل تارة يكون ببيان سقوط أثرها في الحكم بأن يظهر بقاء الحكم مع انتفائها أو بانتقاضها بأن يظهر انتفاء الحكم مع وجودها‏.‏ النوع الثاني‏:‏ من الاستنباط‏:‏ إثبات العلة بإبداء مناسبتها للحكم، والاكتفاء بمجرد المناسبة في إثبات الحكم مختلف فيه، وينشأ منه أن المراد بالمناسب ما هو على منهاج المصالح، بحيث إذا أضيف الحكم إليه انتظم، مثاله‏:‏ قولنا حرمت الخمر لانها تزيل العقل الذي هو مناط التكليف، وهو مناسب، لا كقولنا‏:‏ حرمت لانها تقذف بالزبد، أو لانها تحفظ في الدن، فإن ذلك لا يناسب، وقد ذكرنا حقيقة المناسب وأقسامه ومراتبه في آخر القطب الثاني من باب الاستحسان والاستصلاح، فلا نعيده، لكنا نقول‏:‏ المناسب ينقسم إلى مؤثر وملائم وغريب‏.‏ ومثال المؤثر‏:‏ التعليل للولاية بالصغر ومعنى كونه مؤثرا أنه ظهر تأثيره في الحكم بالإجماع أو النص، وإذا ظهر تأثيره فلا يحتاج إلى المناسبة، بل قوله‏:‏ من مس ذكره فليتوضأ لما دل على تأثير المس قسنا عليه مس ذكر غيره‏.‏ أما الملائم‏:‏ فعبارة عما لم يظهر تأثير عينه في عين ذلك الحكم كما في الصغر، لكن ظهر تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم‏.‏ مثاله قوله‏:‏ لا يجب على الحائض قضاء الصلاة دون الصوم، لما في قضاء الصلاة من الحرج بسبب كثرة الصلاة، وهذا قد ظهر تأثير جنسه لان لجنس المشقة تأثيرا في التخفيف، أما هذه المشقة نفسها وهي مشقة التكرر فلم يظهر تأثيرها في موضع آخر، نعم‏:‏ لو كان قد ورد النص بسقوط قضاء الصلاة عن الحرائر الحيض وقسنا عليهن الاماء لكان ذلك تعليلا بما ظهر تأثير عينه في عين الحكم لكن في محل مخصوص فعديناه إلى محل آخر، ومثاله أيضا قولنا إن قليل النبيذ وإن لم يسكر حرام قياسا على قليل الخمر، وتعليلنا قليل الخمر بأن ذلك منه يدعو إلى كثيره فهذا مناسب لم يظهر تأثير عينه، لكن ظهر تأثير جنسه إذا الخلوة لما كانت داعية إلى الزنا حرمها الشرع، كتحريم الزنا فكان هذا ملائما للجنس بصرف الشرع وأن لم يظهر تأثير عينه في الحكم‏.‏ وأما الغريب الذي لم يظهر تأثيره ولا ملاءمته لجنس تصرفات الشرع، فمثاله قولنا‏:‏ إن الخمر إنماح رمت، لكونها مسكرة، ففي معناها‏:‏ كل مسكر، ولم يظهر أثر السكر في موضع آخر لكنه مناسب‏.‏ وهذا مثال الغريب لو لم يقدبر التنبيه بقوله‏:‏ ‏{‏إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 19‏)‏ ومثاله أيضا قولنا‏:‏ المطلقة ثلاثا في مرض الموت ترث، لان الزوج قصد الفرار من ميراثها، فيعارض بنقيض قصده، قياسا على القاتل، فإنه لا يرث، لانه يستعجل الميراث فعورض بنقيض قصده، فإن التعليل حرمان القاتل بهذا تعليل بمناسب لا يلائم جنس تصرفات الشرع، لانا لا نرى الشرع في موضع آخر قد التفت إلى جنسه، فتبقى مناسبة مجردة غريبة، ولو علل الحرمان بكونه متعديا بالقتل وجعل هذا جزاء على العدوان كان تعليلا بمناسبة ملائم ليس بمؤثر لان الجناية بعينها وإن ظهر تأثيرها في العقوبات فلم يظهر تأثيرها في الحرمان عن الميراث، فلم يؤثر في عين الحكم، وإنما أثر في جنس آخر من الاحكام فهو من جنس الملائم لا من جنس المؤثر، ولا من جنس الغريب، فإذا عرفت مثال هذه الاقسام الثلاثة، فأعلم أن المؤثر مقبول باتفاق القائلين بالقياس، وقصر أبو زيد الدبوسي القياس عليه وقال‏:‏ لا يقبل إلا مؤثر، ولكن أورد للمؤثر أمثله عرف بها أنه قبل الملائم لكنه سماه أيضا مؤثرا، وذكرنا تفصيل أمثلته والاعتراض عليها في كتاب شفاء الغليل، ولا سبيل إلى الاقتصار على المؤثر، لان المطلوب غلبة الظن، ومن استقرأ أقيسة الصحابة رضي الله عنهم واجتهاداتهم علم أنهم لم يشترطوا في كل قياس، كون العلة معلومة بالنص والإجماع، وأما المناسب الغريب فهذا في محل الاجتهاد‏.‏ ولا يبعد عندي أن يغلب ذلك على ظن بعض المجتهدين، ولا يدل دليل قاطع على بطلان اجتهاده، فإن قيل‏:‏ يدل على بطلانه أنه متحكم بالتعليل من غير دليل يشهد لاضافة الحكم إلى علته، قلنا‏:‏ إثبات الحكم على وفقه يشهد لملاحظة الشرع له ويغلب ذلك على الظن، فإن قيل‏:‏ قولكم إثبات الحكم على وفقه تلبيس إذ معناه أنه تقاضى الحكم بمناسبة، وبعث الشارع على الحكم فأجاب باعثه وانبعث على وفق بعثه، وهذا تحكم، لانه يحتمل أن يكون حكم الشرع بتحريم الخمر تعبدا أو تحكما، كتحريم الخنزير والميتة والدم والحمر الاهلية، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، مع تحليل الضبع والثعلب على بعض المذاهب، وهي تحكمات، لكن اتفق معنى الاسكار في الخمر فظن أنه لاجل الاسكار، ولم يتفق مثله في الميتة والخنزير، فقيل أنه تحكم، وهذا على تقدير عدم التنبيه في القرآن بذكر العداوة والبغضاء، ويحتمل أن يكون بمعنى آخر مناسب لم يظهر لنا، ويحتمل أن يكون للاسكار فهذه ثلاثة احتمالات، فالحكم بواحد من هذه الثلاثة تحكم بغير دليل وإلا فبم يترجح هذا الاحتمال وهذا لا ينقلب في المؤثر فإنه عرف كونه علة بإضافة الحكم إليه نصا أو إجماعا، كالصغر وتقديم الاخ للاب والام‏.‏ والجواب‏:‏ أنا نرجح هذا الاحتمال على احتمال التحكم بما رددنا به مذهب منكري القياس، كما في المؤثر، فإن العلة إذا أضيف الحكم إليها في محل احتمل أن يكون مختصا بذلك المحل، كما اختص تأثير الزنا بالمحصن وتأثير السرقة بالنصاب، فلا يبعد أن يؤثر الصغر في ولاية المال دون ولاية البضع وامتزاج الاخوة في التقديم في الميراث دون الولاية، وبه اعتصم نفاة القياس، لكن قيل لهم‏:‏ علم من الصحابة رضي الله عنهم اتباع العلل، وإطراح تنزيل الشرع على التحكم ما أمكن، فكذلك ههنا ولا فرق، وأما قولهم‏:‏ لعل فيه معنى آخر مناسبا هو الباعث للشارع ولم يظهر لنا، وإنما مالت أنفسنا إلى المعنى الذي ظهر لعدم ظهور الآخر لا لدليل دل عليه، فهو وهم محض‏.‏ فنقول‏:‏ غلبة الظن في كل موضع تستند إلى مثل هذا الوهم وتعتمد انتفاء الظهور في معنى آخر لو ظهر لبطلت غلبة الظن، ولو فتح هذا الباب لم يستقم قياس، فإن العلة الجامعة بين الفرع والأصل، وإن كانت مؤثرة فإنما يغلب على الظن الاجتماع لعدم ظهور الفرق، ولعل فيه معنى لو ظهر لزالت عنه غلبة الظن، ولعدم علة معارضة لتلك العلة، فلو ظهر أصل آخر يشهد للفرع بعلة أخرى تناقض العلة الأولى لا تدفع غلبة الظن، بل يحصل الظن من صيغ العموم والظواهر بشرط انتفاء قرينة مخصصة لو ظهرت لزال الظن، لكن إذا لم تظهر جاز التعويل عليه، وذلك لانه لم يظهر لنا من إجماع الصحابة رضي الله عنهم على الاجتهاد إلا اتباع الرأي الاغلب، وإلا فلم يضبطوا أجناس غلبة الظن ، ولم يميزوا جنسا عن جنس، فإن سلمتم حصول الظن بمجرد المناسبة وجب إتباعه، فإن قيل‏:‏ لا نسلم أن هذا ظن، بل هو وهم مجرد، فإن التحكم محتمل ومناسب آخر لم يظهر لنا محتمل وهذا الذي ظهر محتمل، ووهم الانسان مائل إلى طلب علة وسبب لكل حكم ثم أنه سباق إلى ما ظهر له وقاض بأنه ليس في الوجود إلا ما ظهر له فتقضي نفسه بأنه لا بد من سبب، ولا سبب إلا هذا فإذا هو السبب، فقوله‏:‏ لا بد من سبب إن سلمناه ولم ينزل على التحكم ونقول بلا علة ولا سبب، فقوله‏:‏ لا سبب إلا هذا، تحكم مستنده أنه لم يعلم إلا هذا، فجعل عدم علمه بسبب آخر علما بعدم سبب آخر، وهو غلط، وبمثل هذا الطريق أبطلتم القول بالمفهوم، إذ مستند القائل به أنه لابد من باعث على التخصيص، ولم يظهر لنا باعث سوى اختصاص الحكم، فإذا هو الباعث إذ قلتم بما عرفتم أنه لا باعث سواه‏؟‏ فلعله بعثه على التخصيص باعث لم يظهر لكم، وهذا كلام واقع في إمكان التعليل بمناسب لا يؤثر ولا يلائم‏.‏ والجواب أن هذا استمداد من مأخذ نفاة القياس، وهو منقلب في المؤثر والملائم فإن الظن الحاصل به أيضا يقابله احتمال التحكم واحتمال فرق ينقدح واحتمال علة تعارض هذه العلة في الفرع، ولا فرق بين هذه الاحتمالات، ولولاها لم يكن الالحاق مظنونا بل مقطوعا، كإلحاق الامة بالعبد، وفهم الضرب من التأفيف، وقول القائل‏:‏ أن هذا وهم وليس بظن، ليس كذلك، فإن الوهم عبارة عن ميل النفس من غير سبب مرجح والظن عبارة عن الميل بسبب، ومن بنى أمره في المعاملات الدنيوية على الوهم سفه في عقله، ومن بناه على الظن كان معذورا، حتى لو تصرف في مال الطفل بالوهم ضمن، ولو تصرف بالظن لم يضمن، فمن رأى مركب الرئيس على باب دار السلطان فاعتقد أن الرئيس ليس في داره بل في دار السلطان وبنى عليه مصلحته لم يعد متوهما، وإن أمكن أن يكون الرئيس قد أعار مركبه أو ركبه الركابي في شغل ومن رأى الرئيس أمر غلامه بضرب رجل وكان قد عرف أنه يشتم الرئيس فحمل ضربه على أنه شتمه كان معذورا، ومن رأى ماعزا أقر بالزنا، ثم رأى النبي عليه السلام قد أمر برجمه فاعتقد أنه أمر برجمه لزناه، وروى ذلك كان معذورا ظانا ولم يكن متوهما، ومن عرف شخصا بأنه جاسوس ثم رأى السلطان قد أمر بقتله فحمله عليه لم يكن متوهما، فإن قيل‏:‏ لا بل، يكون متوهما، فإنه لو عرف من عادة الرئيس أنه يقابل الاساءة بالاحسان ولا يضرب من يشتمه، وعرف من عادة الامير الاغضاء عن الجاسوس إما استهانة بالخصم أو استمالة ثم رآه قتل جاسوسا فحكم بأنه قتله لتجسسه، فهو متوهم متحكم، أما إذا عرف من عادته ذلك فتكون عادته المطردة علامة شاهدة لحكم ظنه، ووزانه من مسألتنا الملائم الذي التفت الشرع إلى مثله وعرف من عادته ملاحظة عينه أو ملاحظة جنسه، وكلامنا في الغريب الذي ليس بملائم ولا مؤثر‏.‏ والجواب‏:‏ أن ههنا ثلاث مراتب‏:‏ إحداها‏:‏ أن يعرف أن من عادة الرئيس الاحسان إلى المسئ ومن عادة الامير الاغضاء عن الجاسوس، فهذا يمنع تعليل الضرب والقتل بالشتم والتجسس، ووزانه أن يعلل الحكم بمناسب أعرض الشرع عنه وحكم بنقيض موجبه، فهذا لا يعول عليه، لان الشرع كما التفت إلى مصالح فقد أعرض عن مصالح، فما أعرض عنه لا يعلل به‏.‏ والثانية‏:‏ أن يعرف من عادة الرئيس والامير ضرب الشاتم وقتل الجاسوس، فوزانه الملائم وهذا مقبول وفاقا من القائسين‏.‏ وإنما النظر في رتبة ثالثة وهو من لم تعرف له عادة أصلا في الشاتم والجاسوس، فنحن نعلم أنه لو ضرب وقتل غلب على ظنون العقلاء الحوالة عليه، وأنه سلك مسلك المكافأة، لان الجريمة تناسب العقوبة، فإن قيل‏:‏ لان أغلب عادة الملوك ذلك، والاغلب أن طبائعهم تتقارب قلنا‏:‏ فليس في هذا إلا الاخذ بالاغلب، وكذلك أغلب عادات الشرع في غير العبادات اتباع المناسبات والمصالح دون التحكمات الجامدة، فتنزيل حكمه عليه أغلب على الظن، ويبقى أن يقال لعله حكم بمناسب آخر لم يظهر لنا فنقول‏:‏ ما بحثنا عنه بحسب جهدنا فلم نعثر عليه فهو معدوم في حقنا، ولم يكلف المجتهد غيره وعليه دلت أقيسة الصحابة والتمسك بالمؤثر والملائم، لقول النبي عليه السلام لعمر‏:‏ أرأيت لو تمضمضت معناه‏:‏ لم لم تفهم أن القبلة مقدمة الوقاع، والمضمضة مقدمة الشرب، فلو قال عمر‏:‏ لعلك عفوت عن المضمضة لخاصية في المضمضة أو لمعنى مناسب لم يظهر لي ولا يتحقق ذلك في القبلة، لم يقبل منه ذلك، وعد ذلك مجادلة وكذلك قوله‏:‏ أرأيت لو كان على أبيك دين فتقضينه‏؟‏ وكذلك كل قياس نقل عن الصحابة، وبالجملة إذا فتح باب القياس فالضبط بعده غير ممكن، لكن يتبع الظن، والظن على مراتب، وأقواه المؤثر، فإنه لا يعارضه إلا احتمال التعليل بتخصيص المحل ودونه الملائم ودونه المناسب الذي لا يلائم، وهو أيضا درجات، وإن كان على ضعف، ولكن يختلف باختلاف قوة المناسبة، وربما يورث الظن لبعض المجتهدين في بعض المواضع، فلا يقطع ببطلانه ولا يمكن ضبط درجات المناسبة أصلا، بل لكل مسألة ذوق آخر ينبغي أن ينظر فيه المجتهد‏.‏ وأما المفهوم فلا يبعد أيضا أن يغلب في بعض المواضع على ظن بعض المتجهدين وعند ذلك يعسر الوقوف، على أن ذلك الظن حصل بمجرد التخصيص وحده أو به مع قرينة، فلا يبعد أن يقال‏:‏ هو مجتهد فيه وليس مقطوعا، فإنه ظهر لنا أن صيغة العموم بمجردها إذا تجردت عن القرائن أفادت العموم، وليس يفهم ذلك من مجرد لفظ التخصيص وإن كان يمكن انقداحه في النفس في بعض المواضع، فليكن ذلك أيضا في محل الاجتهاد، وقد خرج على هذا أن المعنى باعتبار الملاءمة وشهادة الأصل المعين أربعة أقسام، ملائم يشهد له أصل معين يقبل قطعا عند القائسين، ومناسب لا يلائم ولا يشهد له أصل معين، فلا يقبل قطعا عند القائسين فإنه استحسان ووضع للشرع بالرأي ومثاله‏:‏ حرمان القاتل لو لم يرد فيه نص لمعارضته بنقيض قصده، فهذا وضع للشرع بالرأي ومناسب يشهد له أصل معين، لكن لا يلائم، فهو في محل الاجتهاد، وملائم لا يشهد له أصل معين، وهو الاستدلال المرسل وهو أيضا في محل الاجتهاد، وقد ذكرناه في باب الاستصلاح في آخر القطب الثاني وبينا مراتبه‏.‏ القول في المسالك الفاسدة في إثبات علة الأصل وهي ثلاثة‏:‏ الأول‏:‏ أن نقول الدليل على صحة علة الأصل سلامتها عن علة تعارضها تقتضي نقيض حكمها، وسلامتها عن المعارضة دليل صحتها، وهذا فاسد، لانه إن سلم عنه فإنما سلم عن مفسد واحد، فربما لا يسلم عن مفسد آخر، وإن سلم عن كل مفسد أيضا لم يدل على صحته، كما لو سلم شهادة المجهول عن علة قادحة، لا يدل على كونه حجة ما لم تقم بينة معدلة مزيكة، فكذلك لا يكفي للصحة انتفاء المفسد بل لابد من قيام الدليل على الصحة‏.‏ فإن قيل‏:‏ دليل صحتها انتفاء المفسد، قلنا‏:‏ لا بل، دليل، فساده انتفاء المصحح، فهذا منقلب ولا فرق بين الكلامين المسلك الثاني‏:‏ الاستدلال على صحتها بأطرادها وجريانها في حكمها، وهذا لا معنى له إلا سلامتها عن مفسد واحد وهو النقض، فهو كقول القائل‏:‏ زيد عالم لانه دليل يفسد دعوى العلم ويعارضه أنه جاهل، لانه لا دليل يفسد دعوى الجهل، والحق أنه لا يعلم كونه عالما بانتفاء دليل الجهل، ولا كونه جاهلا بانتفاء دليل العلم بل يتوقف فيه إلى ظهور الدليل، فكذلك الصحة والفساد، فإن قيل‏:‏ ثبوت حكمها معها واقترانه بها دليل على كونها علة، قلنا غلطتم في قولكم ثبوت حكمها، لان هذه إضافة للحكم لا تثبت إلا بعد قيام الدليل على كونها علة، فإذا لم يثبت لم يكن حكمها بل بحال غلبة الظن عليه كان حكم علته واقترن بها، والاقتران لا يدل على الاضافة، فقد يلزم الخمر لون وطعم يقترن به التحريم ويطرد وينعكس والعلة الشدة واقترانه بما ليس بعلة كاقتران الاحكام بطلوع كوكب وهبوب ريح وبالجملة، فنصب العلة مذهب يفتقر إلى دليل كوضع الحكم ولا يكفي في إثبات الحكم أنه لا نقض عليه ولا مفسد له، بل لا بد من دليل فكذلك العلة‏.‏ المسلك الثالث‏:‏ الطرد والعكس، وقد قال قوم‏:‏ الوصف إذا ثبت الحكم معه وزال مع زواله يدل على أنه علة، وهو فاسد، لان الرائحة المخصوصة مقرونة بالشدة في الخمر ويزول التحريم عند زوالها ويتجدد عند تجددها وليس بعلة بل هو مقترن بالعلة، وهذا لان الوجود عند الوجود طرد محض، فزيادة العكس لا تؤثر لان العكس ليس بشرط في العلل الشرعية فلا أثر لوجوده وعدمه، ولان زواله عند زواله يحتمل أن يكون لملازمته للعلة كالرائحة أو لكونه جزءا من أجزاء العلة، أو شرطا من شروطها، والحكم ينتفي بانتفاء بعض شروط العلة وبعض أجزائها فإذا تعارضت الاحتمالات فلا معنى للتحكم، وعلى الجملة فنسلم أن ما ثبت الحكم بثبوته فهو علة، فكيف إذا انضم إليه أنه زال بزواله‏؟‏ أما ما ثبت مع ثبوته وزال مع زواله فلا يلزم كونه علة، كالرائحة المخصوصة مع الشدة، أما إذا انضم إليه سبر وتقسيم كان ذلك حجة، كما لو قال هذا الحكم لا بد له من علة، لانه حدث بحدوث حادث ولا حادث يمكن أن يعلل به إلا كذا وكذا، وقد بطل الكل إلا هذا فهو العلة، ومثل هذا السبر حجة في الطرد المحض وإن لم ينضم إليها العكس، ولا يرد على هذا إلا أنه ربما شذ عنه وصف آخر هو العلة، ولا يجب على المجتهد إلا سبر بحسب وسعه، ولا يجب على الناظر غير ذلك، وعلى من يدعي وصفا رخر إبرازه حتى ينظر فيه، فإن قيل فما معنى إبطالكم التمسك بالطرد والعكس وقد رأيتم تصويب المجتهدين، وقد غلب هذا على ظن قوم، فإن قلتم‏:‏ لا يجوز لهم الحكم به فمحال، إذ ليس على المجتهد إلا الحكم بالظن، وإن قلتم‏:‏ لم يغلب على ظنهم فمحال، لان هذا قد غلب على ظن قوم ولولاه لما حكموا به‏.‏ قلنا‏:‏ أجاب القاضي رحمه الله عن هذا بأن قال‏:‏ نعني بإبطاله أنه باطل في حقنا، لانه لم يصح عندنا ولم يغلب على ظننا إما من غلب على ظنه فهو صحيح في حقه‏.‏ وهذا فيه نظر عندي، لان المجتهد مصيب إذا استوفى النظر وأتمه، وأما إذا قضى بسابق الرأي وبادئ الوهم فهو مخطئ، فإن سبر وقسم فقد أتم النظر وأصاب، أما حكمه قبل السبر والتقسيم بأن ما اقترن بشئ ينبغي أن يكون علة فيه تحكم ووهم، إذ تمام دليله أن ما اقترن بشئ فهو علته، وهذا قد اقترن به فهو إذا علته، والمقدمة الأولى منقوضة بالطم والرم فإذا كأنه لم ينظر ولم يتمم النظر ولم يعثر على مناسبة العلة ولم يتوصل إليه بالسير والتقسيم، ومن كشف له هذا لم يبق له غلبة ظن بالطرد المجرد إلا أن يكون جاهلا ناقص الرتبة عن درجة المجتهدين، ومن اجتهد وليس أهلا له فهو مخطئ، وليس كذلك عندي المناسب الغريب والاستدلال المرسل فإن ذلك مما يوجب الظن لبعض المجتهدين، وليس يقوم فيه دليل قاطع من عرفه محق ظنه بخلاف الطرد المجرد الذي ليس معه سبر وتقسيم، وهذا تمام القول في قيا س العلة، ولنشرع في قياس الشبه‏.‏

الباب الثالث في قياس الشبه

ويتعلق النظر فهذا الباب بثلاثة أطراف‏:‏ الطرف الأول‏:‏ في حقيقة الشبه وأمثلته وتفصيل المذاهب فيه وإقامة الدليل على صحته‏.‏ أما حقيقته فاعلم أن اسم الشبه يطلق على كل قياس، فإن الفرع يلحق بالأصل بجامع يشبهه فيه، فهو إذا يشبهه، وكذلك اسم الطرد، لان الاطراد شرط كل علة جمع فيها بين الفرع والأصل، ومعنى الطرد السلامة عن النقض، لكن العلة الجامعة إن كانت مؤثرة أو مناسبة عرفت بأشرف صفاتها وأقواها وهو التأثير، والمناسبة دون الاخس الاعم الذي هو الاطراد والمشابهة فإن لم يكن للعلة خاصية إلا الاطراد الذي هو أعم أوصاف العلل وأضعفها في الدلالة على الصحة خص باسم الطرد لا لاختصاص الاطراد بها لكن لانه لا خاصية لها سواه، فإن انضاف إلى الاطراد زيادة ولم ينته إلى درجة المناسب والمؤثر سمي شبها وتلك الزيادة هي مناسبة الوصف الجامع لعلة الحكم وإن لم يناسب نفس الحكم، بيانه أنا نقدر أن لله تعالى في كل حكم سرا وهو مصلحة مناسبة للحكم، وربما لا يطلع على عين تلك المصلحة، لكن يطلع على وصف يوهم الاشتمال على تلك المصلحة ويظن أنه مظنتها وقالبها الذي يتضمنها وإن كنا لا نطلع على عين ذلك السر، فالاجتماع في ذلك الوصف الذي يوهم الاجتماع في المصلحة الموجبة للحكم يوجب الاجتماع في الحكم، ويتميز عن المناسب بأن المناسب هو الذي يناسب الحكم ويتقاضاه بنفسه، كمناسبة الشدة للتحريم، ويتميز عن الطرد بأن الطرد لا يناسب الحكم ولا المصلحة المتوهمة للحكم بل نعلم إن ذلك الجنس لا يكون مظنة المصالح وقالبها، كقول القائل، الخل مائع لا تبنى القنطرة على جنسه فلا يزيل النجاسة كالدهن، وكأنه علل إزالة النجاسة بالماء بأنه تبنى القنطرة على جنسه واحترز من الماء القليل‏.‏ فإنه وإن كان لا تبنى القنطرة عليه فإنه تبنى على جنسه، فهذه علة مطردة لا نقض عليها ليس فيها خصلة سوى الاطراد ونعلم أنه لا يناسب الحكم ولا يناسب العلة التي تقتضي الحكم بالتضمن لها، والاشتمال عليها، فإنا نعلم أن الماء جعل مزيلا للنجاسة لخاصية وعلة وسبب يعلمه الله تعالى وإن لم نعلمها ونعلم أن بناء القنطرة مما لا يوهم الاشتمال عليها ولا يناسبها فإذا معنى التشبيه الجمع بين الفرع، والأصل بوصف مع الاعتراف بأن ذلك الوصف ليس علة للحكم بخلاف قياس العلة، فإنه جمع بما هو علة الحكم، فإن لم يرد الاصوليون بقياس الشبه هذا الجنس فلست أدري ما الذي أرادوا وبم فصلوه عن الطرد المحض وعن المناسب وعلى الجملة فنحن نريد هذا بالشبه، فعلينا الآن تفهيمه بالامثلة وإقامة الدليل على صحته، أما أمثلة قياس الشبه فهي كثيرة ولعل جل أقيسة الفقهاء ترجع إليها إذ يعسر إظهار تأثير العلل بالنص والإجماع والمناسبة المصلحية‏:‏ المثال الأول‏:‏ قول أبي حنيفة‏:‏ مسح الرأس لا يتكرر تشبيها له بمسح الخف والتيمم، والجامع أنه مسح، فلا يستحب فيه التكرار قياسا على التيمم ومسح الخف، ولا مطمع فيما ذكره أبو زيد من تأثير المسح، فإنه أورد هذا مثالا للقياس المؤثر وقال‏:‏ ظهر تأثير المسح في التخفيف في الخف والتيمم، فهو تعليل بمؤثر وقد غلط فيه، إذ ليس يسلم الشافعي أن الحكم في الأصل معلل بكونه مسحا بل لعله تعبد ولا علة له أو معلل بمعنى آخر مناسب لم يظهر لنا والنزاع واقع في علة الأصل، وهو أن مسح الخف لم لا يستحب تكراره‏.‏ أيقال أنه تعبد لا يعلل‏؟‏ أو لان تكراره يؤدي إلى تمزيق الخف، أو لانه وظيفة تعبدية تمرينية لا تفيد فائدة الأصل إذ لا نظافة فيه، لكن وضع لكيلا تركن النفس إلى الكسل، أو لانه وظيفة على بدل محل الوضوء لا على الأصل، فمن سلم أن العلة المؤثرة في الأصل هي المسح يلزمه فالشافعي يقول‏:‏ أصل يؤدي بالماء، فيتكرر كالاعضاء الثلاثة، فكأنه يقول‏:‏ هي إحدى الوظائف الاربع في الوضوء، فالاشبه التسوية بين الاركان الاربعة، ولا يمكن ادعاء التأثير والمناسبة في التعلتين على المذهبين ولا ينكر تأثير كل واحد من الشبهين في تحريك الظن إلى أن يترجح‏.‏ المثال الثاني‏:‏ قال الشافعي رحمه الله‏:‏ في مسألة النية طهارتان، فكيف يفترقان‏؟‏ وقد يقال‏:‏ طهارة موجبها في غير محل موجبها، فتفتقر إلى النية كالتيمم، وهذا يوهم الاجتماع في مناسب هو مأخذ النية وإن يطلع على ذلك المناسب‏.‏ المثال الثالث‏:‏ تشبيه الارز والزبيب بالتمر والبر لكونهما مطعومين أو قوتين، فإن ذلك إذا قوبل بالتشبيه بكونهما مقدرين أو مكيلين ظهر الفرق، إذ يعلم أن الربا ثبت لسر ومصلحة، والطعم والقوت وصف ينبئ عن معنى به قوام النفس، والاغلب على الظن أن تلك المصلحة في ضمنهما لا في ضمن الكيل الذي هو عبارة عن تقدير الاجسام‏.‏ المثال الرابع‏:‏ تعليلنا وجوب الضمان في يد السوم بأنه أخذ لغرض نفسه من غير استحقاق ونعديه إلى يد العارية، وتعليل أبي حنيفة بأنه أخذ على جهة الشراء، والمأخوذ على جهة الشراء كالمأخوذ على حقيقته ويعديه إلى الرهن، فكل واحدة من العلتين ليست مناسبة ولا مؤثرة، إذ لم يظهر بالنص أو الإجماع إضافة الحكم إلى هذين الوصفين في غير يد السوم وهو في يد السوم متنازع فيه‏.‏ المثال الخامس‏:‏ قولنا إن قليل أرش الجناية يضرب على العاقلة لانه بدل الجناية على الآدمي كالكثير، فإنا نقول‏:‏ ثبت ضرب الدية وضرب أرش اليد والاطراف، ونحن لا نعرف معنى مناسبا يوجب الضرب على العاقلة، فإنه على خلاف المناسب، لكن يظن أن ضابط الحكم الذي تميز به عن الاموال هو أنه بدل الجناية على الآدمي فهو مظنة المصلحة التي غابت عنا‏.‏ المثال السادس‏:‏ قولنا في مسألة التبييت‏:‏ أنه صوم مفروض، فافتقر إلى التبييت كالقضاء، وهم يقولون‏:‏ صوم عين فلا يفتقر إلى التبييت كالتطوع، وكأن الشرع رخص في التطوع ومنع من القضاء فظهر لنا أن فاصل الحكم هو الفرضية، فهذا وأمثاله مما يكثر شبهه ربما ينقدح لبعض المنكرين للشبه، في بعض هذه الامثلة إثبات العلة بتأثير أو مناسبة، أو بالتعرض للفارق وإسقاط أثره، فيقول‏:‏ هي مأخذ الذي الذي ظهر لهذا الناظر، وعند انتفائه يبقى ما ذكرناه من الايهام، وهو كتقديرنا في تمثيل المناسب بإسكار الخمر عدم ورود الايماء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 19‏)‏ والمقصود أن المثال ليس مقصودا في نفسه، فإن انقدح في بعض الصور معنى زائد على الايهام المذكور فليقدر انتفاؤه، هذا حقيقة الشبه وأمثلته‏.‏ وأما إقامة الدليل على صحته فهو‏:‏ أن الدليل إما أن يطلب من المناظر أو يطلبه المجتهد من نفسه، والأصل هو المجتهد، وهذا الجنس مما يغلب على ظن بعض المجتهدين، وما من مجتهد يمارس النظر في مأخذ الاحكام إلا ويجد ذلك من نفسه، فمن أثر ذلك في نفسه حتى غلب ذلك على ظنه فهو كالمناسب، ولم يكلف إلا غلبة الظن، فهو صحيح في حقه، ومن لم يغلب ذلك على ظنه فليس له الحكم به، وليس معنا دليل قاطع يبطل الاعتماد على هذا الظن بعد حصوله بخلاف الطرد على ما ذكرناه، أما المناظر فلا يمكنه إقامة الدليل على على الخصم المنكر فإنه إن خرج إلى طريق السبر والتقسيم كان ذلك طريقا مستقلا لو ساعد مثله في الطرد لكان دليلا، وإذا لم يسبر فطريقه أن يقول‏:‏ هذا يوهم الاجتماع في مأخذ الحكم ويغلب على الظن، والخصم يجاحد، إما معاندا جاحدا وإما صادقا من حيث أنه لا يوهم عنده ولا يغلب على ظنه، وإن غلب على ظن خصمه، والمجتهدون الذين أفضى بهم النظر إلى أن هذا الجنس مما يغلب على الظن لا ينبغي أن يصطلحوا في المناظرة على فتح باب المطالبة أصلا كما فعله القدماء من الاصحاب، فإنهم لم يفتحوا هذا الباب، واكتفوا من العلل بالجمع بين الفرع والأصل بوصف جامع كيف كان، وأخرجوا المعترض إلى إفساده بالنقض أو الفرق أو المعارضة، لان إضافة وصف آخر من الأصل إلى ما جعله علة الأصل وإبداء ذلك في معرض قطع الجمع أهون من تكليف إقامة الدليل على كونه مغلبا على الظن، فإن ذلك يفتح طريق النظر في أوصاف الأصل، والمطالبة تحسم سبيل النظر، وترهق إلى ما لا سبيل فيه إلى إرهاق الخصم وإفحامه، والجدل شريعة وضعها الجدليون فليضعوها على وجه هو أقرب إلى الاتنفاع فإن قيل‏:‏ وضعها كذلك يفتح باب الطرديات المستقبحة، وذلك أيضا شنيع، قلنا‏:‏ الطرد الشنيع يمكن إفساده على الفور بطريق أقرب من المطالبة فإنه إذا علل الأصل بوصف مطرد يشمل الفرع فيعارض بوصف مطرد يخص الأصل ولا يشمل الفرع، فيكون ذلك معارضة الفاسد بالفاسد، وهو مسكت معلوم على الفور، والاصطلاح عليه كما فعله قدماء الاصحاب أولى، بل لا سبيل إلى الاصطلاح على غيره لمن يقول بالشبه، فإن لم يستحسن هذا الاصطلاح فليقع الاصطلاح على أن يسير المعلل أوصاف الأصل ويقول‏:‏ لا بد للحكم من مناط، وعلامة ضابطة، ولا علة ولا مناط إلا كذا وكذا، وما ذكرته أولى من غيره أو ما ذكرته فهو منقوض وباطل، فلا يبقى عليه سؤال إلا أن يقول‏:‏ مناط الحكم في محل النص الاسم أو المعنى الذي يخص المحل كقوله‏:‏ الحكم في البر معلوم باسم البر فلا حاجة إلى علامة أخرى، وفي الدراهم والدنانير معلوم بالنقدية التي تخصها، أو يقول مناط الحكم وصف آخر لا أذكره، ولا يلزمني أن أذكره، وعليك تصحيح علة نفسك، وهذا الثاني مجادلة محرمة محظورة، إذ يقال له‏:‏ إن لم يظهر لك إلا ما ظهر لي لزمك ما لزمني بحكم استفراغ الوسع في السبر، وإن ظهر لك شئ آخر يلزمك التنبيه عليه بذكره حتى أنظر فيه فأفسده أو أرجح علتي على علتك، فإن قال‏:‏ هو اسم البر أو النقدية فذلك صحيح مقبول، وعلى المعلل أن يفسد ما ذكره بأن يقول‏:‏ ليس المناط اسم البر بدليل أنه إذا صار دقيقا أو عجينا أو خبزا دام حكم الربا وزال اسم البر، فدل أن علامة الحكم أمر يشترط فيه هذه الاحوال من طعم أو قوت أو كيل‏.‏ والقوت لا يشهد له الملح، فالطعم الذي يشهد له الملح أولى، والكيل ينبئ عن معنى يشعر بتضمن المصالح بخلاف الطعم‏.‏ فهكذا نأخذ من الترجيح ونتجاذب أطراف الكلام، فإذا الطريق إما اصطلاح القدماء وإما الاكتفاء بالسبر، وإما إبطال القول بالشبه رأسا والاكتفاء بالمؤثر الذي دل النص أو الإجماع أو السبر القاطع على كونه مناطا للحكم ويلزم منه أيضا ترك المناسب، وإن كان ملائما، فكيف إذا كان غريبا فإن للخصم أن يقول‏:‏ إنما غلب على ظنك مناسبته من حيث لم تطلع على مناسبة أظهر وأشد إخالة مما اطلعت عليه، وما أنت إلا كمن رأى إنسانا أعطى فقيرا شيئا فظن أنه أعطاه لفقره، لانه لم يطلع على أنه ابنه ولو اطلع لم يظن ما ظنه وكمن رأى ملكا قتل جاسوسا فظن أنه قتله لذلك، ولم يعلم أنه دخل على حريمه وفجر بأهله ولو علم لما ظن ذلك الظن، فإن قبل من المتمسك بالمناسب أن يقول‏:‏ هذا ظني بحسب سبري وجهدي واستفراغ وسعي، فليقبل ذلك من المشبه بل من الطارد ويلزم إبداء ما هو أظهر منه حتى يمحق ظنه‏.‏ وهذا تحقيق قياس الشبه وتمثيله ودليله‏.‏ أما تفصيل المذاهب فيه ونقل الاقاويل المختلفة في تفهيمه فقد آثرت الاعراض عنه لقلة فائدته، فمن عرف ما ذكرناه لم يخف عليه غور ما سواه ومن طلب الحق من أقاويل الناس دار رأسه وحار عقله، وقد استقصيت ذلك في تهذيب الاصول‏.‏ الطرف الثاني في بيان التدريج في منازل هذه الاقيسة من أعلاها إلى أدناها وأدناها الطرد الذي ينبغي أن ينكره كل قائل بالقياس، وأعلاها ما في معنى الأصل الذي ينبغي أن يقربه كل منكر للقياس، وبيانه أن القياس أربعة أنواع‏:‏ المؤثر، ثم المناسب، ثم الشبه، ثم الطرد، والمؤثر يعرف كونه مؤثرا بنص أو إجماع أو سبر حاصر، وأعلاها المؤثر، وهو ما ظهر تأثيره في الحكم، أي الذي عرف إضافة الحكم إليه وجعله مناطا وهو باعتبار النظر إلى عين العلة وجنسها، وعين الحكم وجنسه أربعة، لانه إما أن يظهر تأثير عينه في عين ذلك الحكم أو تأثير عينه في جنس ذلك الحكم، أو تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم أو تأثير جنسه في عين ذلك الحكم، فإن ظهر تأثير عينه في عين ذلك الحكم فهو الدي يقال له أنه في معنى الأصل وهو المقطوع به الذي ربما يعترف به منكرو القياس، إذ لا يبقى بين الفرع والأصل مباينة إلا تعدد المحل، فإنه إذا ظهر أن عين السكر أثر في تحريم عين الشرب في الخمر، والنبيذ ملحق به قطعا، وإذا ظهر أن علة الربا في التمر الطعم فالزبيب ملحق به قطعا، إذ لا يقى إلا اختلاف عدد الاشخاص التي هي مجازي المعنى، ويكون ذلك كظهور أثر الوقاع في إيجاب الكفارة على الاعرابي، إذ يكون الهندي والتركي في معناه‏.‏ الثاني في المرتبة‏:‏ أن يظهر تأثير عينه في جنس ذلك الحكم لا في عينه، كتأثير أخوة الاب والام في التقديم في الميراث، فيقاس عليه ولاية النكاح، فإن الولاية ليس هي عين الميراث، لكن بينهما مجانسة في الحقيقة، فإن هذا حق، وذلك حق، فهذا دون الأول‏:‏ لان المفارقة بين جنس وجنس غير بعيد بخلاف المفارقة بين محل ومحل لا يفترقان أصلا فيما يتوهم أن له مدخلا في التأثير‏.‏ الثالث في المرتبة‏:‏ أن يؤثر جنسه في عين ذلك الحكم، كإسقاط قضاء الصلاة عن الحائض تعليلا بالجرح والمشقة، فإنه ظهر تأثير جنس الحرج في إسقاط قضاء الصلاة، كتأثير مشقة السفر في إسقاط قضاء الركعتين الساقطتين بالقصر، وهذا هو الذي خصصناه باسم الملائم، وخصصنا اسم المؤثر بما ظهر تأثير عينه‏.‏ الرابع في المرتبة‏:‏ ما ظهر تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم وهو الذي سميناه المناسب الغريب، لان الجنس الاعم للمعاني كونها مصلحة والمناسب مصلحة، وقد ظهر أثر المصالح في الاحكام، إذ عهد من الشرع الالتفات إلى المصالح، فلاجل هذا الاستمداد العام من ملاحظة الشرع جنس المصالح اقتضى ظهور المناسبة تحريك الظن‏.‏ ولاجل شمة من الالتفات إلى عادة الشرع أيضا أفاد الشبه الظن لانه عبارة عن أنواع من الصفات عهد من الشرع ضبط الاحكام بجنسها، ككون الصيام فرضا في مسألة التبييت، وككون الطهارة تعبدا موجبها في غير محل موجبها، وكون الواجب بدل الجناية على الآدمي في مسألة ضرب القليل على العاقلة، بخلاف بناء القنطرة على الماء وأمثاله من الصفات، فإن الشرع لم يلتفت إلى جنسه، والمألوف من عادة الشرع هو الذي يعرف مقاصد الشرع، والعادة تارة تثبت في جنس وتارة تثبت في عين، ثم للجنسية أيضا مراتب بعضها أعم من بعض، وبعضها أخص، وإلى العين أقرب، فإن أعم أوصاف الاحكام كونه حكما، ثم تنقسم إلى تحريم وإيجاب وندب وكراهة، والواجب مثلا ينقسم إلى عبادة وغير عبادة، والعبادة تنقسم إلى صلاة وغير صلاة، والصلاة تنقسم إلى فرض ونفل، وما ظهر تأثيره في الفرض أخص مما ظهر تأثيره في الصلاة، وما ظهر تأثيره في الصلاة أخص مما ظهر تأثيره في العبادة، وما ظهر تأثيره في العبادة أخص مما ظهر في جنس الواجبات، وما ظهر في جنس الواجبات أخص مما ظهر في جنس الاحكام‏.‏ وكذلك في جانب المعنى أعم أوصافه أن يكون وصفا تناط الاحكام بجنسه حتى يدخل فيه الاشباه، وأخص منه كونه مصلحة حتى يدخل فيه المناسب دون الشبه، وأخص منه أن يكون مصلحة خاصة، كالردع والزجر، أو معنى سد الحاجات، أو معنى حفظ العقل بالاحتراز عن المسكوات، فليس كل جنس على مرتبة واحدة، فالاشباه أضعفها، لانها لا تعتضد بالعادة المألوفة إلا من حيث أنه من جنس الاوصاف التي قد يضبط الشرع الاحكام بها، وأقواها المؤثر الذي ظهر أثر عينه في عين الحكم، فإن قياس الثيب الصغيرة على البكر الصغيرة في ولاية التزويج ربما كان أقرب من بعض الوجوه من قياسه على ولاية المال، فإن الصغر إن أثر في ولاية المال فولاية البضع جنس آخر، فإذا ظهر أثره في حق الابن الصغير في نفس ولاية النكاح ربما كان أقرب من بعض الوجوه من قياسه على ولاية المال، فقد عرفت بهذا أن الظن ليس بتحريك، والنفس ليست تميل إلا بالالتفات إلى عادة الشرع في التفات الشرع إلى عين ذلك المعنى أو جنسه في عين ذلك الحكم أو جنسه، وأن للجنسية درجات متفاوتة في القرب والبعد لا تنحصر، فلاجل ذلك تتفاوت درجات الظن، والاعلى مقدم على الاسفل، والاقرب مقدم على الابعد في الجنسية، ولكل مسألة ذوق مفرد ينظر فيه المجتهد‏.‏ ومن حاول حصر هذه الاجناس في عدد وضبط فقد كلف نفسه شططا لا تتسع له قوة البشر، وما ذكرناه هو النهاية في الاشارة إلى الاجناس ومراتبها وفي مقنع وكفاية‏.‏ تنبيه آخر على خواص الاقيسة إعلم أن المؤثر من خاصيته أن يستغنى عن السبر والحصر، فلا يحتاج إلى نفي ما عداه، لانه لو ظهر في الأصل مؤثر آخر لم يطرح بل يجب التعليل بهما، فإن الحيض والردة والعدة قد تجتمع على امرأة، ويعلل تحريم الوطئ بالجميع لانه قد ظهر تأثير كل واحد على الانفراد بإضافة الشرع التحريم إليه، أما المناسب فلم يثبت إلا بشهادة المناسبة وإثبات الحكم على وفقه، فإذا ظهرت مناسبة أخرى انمحقت الشهادة الأولى، كما في إعطاء الفقير القريب، فإنا لا ندري أنه أعطى للفقر أو للقرابة أو لمجموع الامرين، فلا يتم نظر المجتهد في التعليل بالمناسب ما لم يعتقد نفي مناسب آخر أقوى ولم يتوصل بالسبر إليه‏.‏ أما المناظر فينبغي أن يكتفي منه بإظهار المناسبة ولا يطالب بالسبر، لان المناسبة تحرك الظن إلا في حق من اطلع على مناسب آخر، فيلزم المعترض إظهاره إن اطلع عليه، وإلا فليعترض بطريق آخر فهذا فرق ما بين المناسب والمؤثر، وأما الشبه فمن خاصيته أنه يحتاج إلى نوع ضرورة في استنباط مناط الحكم، فإن لم تكن ضرورة فقد ذهب ذاهبوان إلى أنه لا يجوز اعتباره، وليس هذا بعيدا عندي في أكثر المواضع، فإنه إذا أمكن قصر الحكم على المحل وكان المحل المنصوص عليه معرفا بوصف مضبوط فأي حاجة إلى طلب ضابط آخر ليس بمناسب، فكان تمام النظر في الشبه بأن يقال‏:‏ لا بد من علامة ولا علامة أولى من هذا، فإذا هو العلامة كما تقول‏:‏ الربا جار في الدقيق والعجين، فلم ينضبط باسم البر، فلا بد من ضابط، ولا ضابط أولى من الطعم‏.‏ والضرب على العاقلة ورد في النفس والطرف وفارق المال، فلا بد من ضابط ولا ضابط إلا أنه بدل الجناية على الآدمي وهذا يجري في القليل، والتطوع يستغني عن التبييت، و القضاء لا يستغنى، والاداء دائر بينهما، ولا بد من فاصل للقسمين، والفرضية أولى الفواصل، وهذا بخلاف المناسب، فإنه يجذب الظن ويحركه وإن لم يكن إلى طلب العلة ضرورة، فإن قيل‏:‏ فإذا تحققت الضرورة حتى جاز أن يقال‏:‏ لا بد من علامة وتم السبر حتى لم تظهر علامة إلا الطرد المحض الذي لا يوهم جاز القياس به أيضا فإنه خاصية تنفي الشبه وإيهام الاشتمال على مخيل، قلنا‏:‏ لهذا السؤال قال قائلون‏:‏ لا تشترط هذه الضرورة في الشبه كما في المناسب، فإن شرطناه فيكاد لا يبقى بين الشبه والطرد من حيث الذات فرق، لكن من حيث الاضافة إلى القرب و البعد، فإن جعلنا الطرد عبارة عما بعد عن ذات الشئ كبناء القنطرة فيقضي بادئ الرأي ببطلانه، لانه يظهر سواه على البديهة صفات هي أحرى بتضمن حكم المصلحة، فيه فيكون فساده لظهور ما هو أقرب منه لا لذاته، وعلى الجملة فمهما ظهر الأقرب والاخص أمحق الظن الحاصل بالابعد، وقد يكون ظهور الاقرب بديهيا لا يحتاج إلى تأمل، فيصير بطلان الابعد بديهيا، فيظن أنه لذاته وإنما هو لانمحاق الظن به من حيث وجد ما هو أقرب، وقد بينا أن ضبط هذا الجنس بالضوابط الكلية عسير، بل للمجتهد في كل مسألة ذوق يختص بها، فلنفوض ذلك إلى رأي المجتهد، وإنما القدر الذي قطعنا به في إبطال الطرد أن مجرد كون الحكم مع الوصف لا يحرك الظن للتعليل به ما لم يستمد من شمة إخالة أو مناسبة أو إيهام مناسبة أو سبر وحصر مع ضرورة طلب مناط، وقد ينطوي الذهن على معنى تلك الضرورة، والسبر وإن لم يشعر صاحبه بشعور نفسه به فإن الشعور بالشئ غير الشعور بالشعور، فلو قدر تجرده عن هذا الشعور لم يحرك ظن عاقل أصلا‏.‏ الطرف الثالث في بيان ما يظن أنه من الشبه المختلف فيه وليس منه وهي ثلاثة أقسام‏:‏ الأول‏:‏ ما عرف منه مناط الحكم قطعا وافتقر إلى تحقيق المناط، مثاله‏:‏ طلب الشبه في جزاء الصيد، وبه فسر بعض الاصوليين الشبه وهذا خطأ، لان صحة ذلك مقطوع به لانه قال‏:‏ ‏{‏فجزاء مثل ما قتل من النعم‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 59‏)‏ فعلم أن المطلوب هو المثل، وليس في النعم ما يماثل الصيد من كل وجه، فعلم أن المراد به الاشبه الامثل، فوجب طلبه كما أوجب الشرع مهر المثل وقيمة المثل وكفاية المثل في الاقارب، ولا سبيل إلا المقايسة بينها وبين نساء العشيرة وبين شخص القريب المكفى في السن والحال والشخص وبين سائر الاشخاص لتعرف الكفاية، فذلك مقطوع به، فكيف يمثل به الشبه المختلف فيه الذي يصعب الدليل على إثباته‏.‏

القسم الثاني‏:‏ ما عرف منه مناط الحكم

ثم اجتمع مناطان متعارضان في موضع واحد فيجب ترجيح أحد المناطين ضرورة، فلا يكون ذلك من الشبه، مثاله أن بدل المال غير مقدر وبدل النفس مقدر، والعبد نفس كالحر ومال كالفرس، فأما أن يقدر بدله أو لا يقدر، فتارة يشبه بالفرس وتارة بالحر، وذلك يظهر في ترجيح أحد المعنيين على الآخر وقد ظهر كون المعنيين من مناط الحكم، وإنما المشكل من الشبه جعل الوصف الذي لا يناسب مناطا مع أن الحكم لم يضف إليه، وههنا بالاتفاق الحكم ينضاف إلى هذين المناطين‏.‏

القسم الثالث‏:‏ ما لم يوجد فيه كل مناط على الكمال

لكن تركبت الواقعة من مناطين وليس يتمحض أحدهما فيحكم فيه بالاغلب، مثاله‏:‏ أن اللعان مركب من الشهادة واليمين وليس بيمين محض، لان يمين المدعي لا تقبل، والملاعن مدع، وليس بشهادة لان الشاهد يشهد لغيره، وهو إنما يشهد لنفسه، وفي اللعان لفظ اليمين والشهادة، فإذا كان العبد من أهل اليمين لا من أهل الشهادة، وتردد في أنه هل هو من أهل اللعان، وبان لنا غلبة إحدى الشائبتين، فلا ينبغي أن يختلف في أن الحكم به واجب، وليس من الشبه المختلف فيه، وكذلك الظهار لفظ محرم، وهو كلمة زور، فيدور بين القذف والطلاق، وزكاة الفطر تتردد بين المؤنة والقربة، والكفارة تتردد بين العبادة والعقوبة، وفي مشابههما، فإذا تناقض حكم الشائبتين، ولا يمكن إخلاء الواقعة عن أحد الحكمين وظهر دليل على غلبة إحدى الشائبتين ولم يظهر معنى مناسب في الطرفين فينبغي أن يحكم بالاغلب الاشبه، وهذا أشبه هذه الاقسام الثلاثة بمأخذ الشبه، فإنا نظن أن العبد ممنوع من الشهادة لسر فيه مصلحة وممكن من اليمين لمصلحة، وأشكل الامر في اللعان، وبان أن إحدى الشائبتين أغلب، فيكون الاغلب على ظننا بقاء تلك المصلحة المودعة تحت المعنى الاغلب‏.‏ فإن قيل‏:‏ وبم يعلم المعنى الاغلب المعين‏؟‏ قلنا‏:‏ تارة بالبحث عن حقيقة الذات، وتارة بالاحكام وكثرتها، وتارة بقوة بعض الاحكام وخاصيته في الدلالة، وهو مجال نظر المجتهدين، وإنما يتولى بيانه الفقيه دون الاصولي، والغرض أنه إذا سلم أن أحد المناطين أغلب وجب الاعتراق بالحكم بموجبه، لانه إما أن يخلى عن أحد الحكمين المتناقضين وهو محال أو يحكم بالمغلوب أو بالغالب، فيتيعين الحكم بالغالب فيكيف يلحق هذا بالشبه المشكل المختلف فيه‏؟‏ نعم لو دار الفرع بين أصلين وأشبه أحدهما في وصف ليس مناطا وأشبه الآخر في وصفين ليسا مناطين فهذا من قبيل الحكم بالشبه، والالحاق بالاشبه والامر فيه إلى المجتهد فإن غلب على ظنه أن المشاركة في الوصفين توهم المشاركة في المصلحة المجهولة عنده التي هي مناط الحكم عند الله تعالى، وكان ذلك أغلب في نفسه من مشاركة الأصل الآخر الذي لم يشبهه إلا في صفة واحدة، فحكم هنا بظنه، فهذا من قبيل الحكم بالشبه، أما كل وصف ظهر كونه مناطا للحكم فاتباعه من قبيل قياس العلة لا من قبيل قياس الشبه‏.‏ هذا ما أردنا ذكره في قياس الشبه، وكان القول فيه من تتمة الباب الثاني لانه نظر في طريق إثبات علة الأصل، لكنا أفردناه بباب لكيلا يطول الكلام في الباب الأول، وإذا فرغنا من طريق إثبات العلل فلا بد من بيان أركان القياس وشروطه بعد ذلك‏.‏

الباب الرابع في أركان القياس وشروط كل ركن

وأركانه أربعة‏:‏ الأصل، والفرع، والعلة، والحكم، فلنميز القول في شرط كل ركن ليكون أقرب إلى الضبط الركن الأول وهو الأصل وله شروط ثمانية‏.‏ الشرط الأول‏:‏ أن يكون حكم الأصل ثابتا، فإنه إن أمكن توجيه المنع عليه لم ينتفع به الناظر ولا المناظر قبل إقامة الدليل على ثبوته‏.‏ الثاني‏:‏ أن يكون الحكم ثابتا بطريق سمعي شرعي إذ ما ثبت بطريق عقلي أو لغوي لم يكن حكما شرعيا، والحكم اللغوي والعقلي لا يثبت قياسا عندنا كما ذكرناه في كتاب أساس القياس‏.‏ الثالث‏:‏ أن يكون الطريق الذي به عرف كون المستنبط من الأصل علة سمعا، لان كون الوصف علة حكم شرعي ووضع شرعي‏.‏ الرابع‏:‏ أن لا يكون الأصل فرعا لاصل آخر، بل يكون ثبوت الحكم فيه بنص أو إجماع فلا معنى لقياس الذرة على الازر، ثم قياس الارز على البر، لان الوصف الجامع إن كان موجودا في الأصل الأول كالطعم مثلا، فتطويل الطريق عبث‏.‏ إذ ليست الذرة بأن تجعل فرعا للارز أولى من عكسه، وإن لم يكن موجودا في الأصل فبم يعرف كون الجامع علة، وإنما يعرف كون الشبه والمناسب علة بشهادة الحكم، وإثباته على وفق المعنى، فإذا لم يكن الحكم منصوصا عليه أو مجمعا عليه لم يصح لان يستدل به على ملاحظة المعنى المقرون به لان ذلك يؤدي في قياس الشبه إلى أن يشبه بالفرع الثالث رابع، وبالرابع خامس فينتهي الاخير إلى حد لا يشبه الأول، كما لو التقط حصاة وطلب ما يشبهها، ثم طلب ما يشبه الثانية ثم طلب ما يشبه الثالثة، ثم ينتهي بالآخرة إلى أن لا يشبه العاشر الأول، لان الفروق الدقيقة تجتمع فتظهر المفارقة، فإن قيل‏:‏ فأي فائدة لفرض المناظر الكلام في بعض الصور‏؟‏ قلنا‏:‏ للفرض محلان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن يعم السائل بسؤاله جملة من الصور، فيخصص المناظر بعض الصور إذ يساعده فيه خبر أو دليل خاص أو يندفع فيه بعض شبه الخصم‏.‏ الثاني‏:‏ أن تبني فرعا على فرآخر، وهو ممتنع على الناظر المجتهد لما ذكرناه، أما قبوله من المناظر فإنه ينبني على اصطلاح الجدليين، فالجدل شريعة وضعها المتناظرون، ونظرنا في المجتهد وهو لا ينتفع بذلك، وموافقة الخصم على الفرع لا تنفع ولا تجعله أصلا، إذ الخطأ ممكن على الخصمين، إلا أن يكون ذلك إجماعا مطلقا فيصير أصلا مستقلا‏.‏ الخامس‏:‏ أن يكون دليل إثبات العلة في الأصل مخصوصا بالأصل لا يعم الفرع، مثاله أنه لو قال السفرجل مطعوم، فيجري فيه الربا قياسا على البر، ثم استدل على إثبات كون الطعم علة بقوله عليه السلام، لا تبيعوا الطعام بالطعام أو قال‏:‏ فضل القاتل القتيل بفضيلة الاسلام فلا يقتل به كما لو قتل المسلم المعاهد ثم استند في إثبات علته إلى قوله‏:‏ لا يقتل مؤمن بكافر فهذا قياس منصوص على منصوص، وهو كقياس البر على الشعير والدراهم على الدنانير‏.‏ السادس‏:‏ قال قوم‏:‏ شرط الأصل أن يقوم دليل بجواز القياس عليه، وقال قوم‏:‏ بل أن يقوم دليل على وجوب تعليه، وهذا كلام مختل لا أصل له، فإن الصحابة حيث قاسوا لفظ الحرام على الظهار أو الطلاق أو اليمين، لم يقم دليل عندهم على وجوب تعليل أو جوازه، لكن الحق أنه إن القدح فيه معنى مخيل غلب على الظن اتباعه، وترك الالتفات إلى المحل الخاص، وإن كان الوصف من قبيل الشبه كالطعم الذي يناسب فيحتمل أن يقال‏:‏ لولا ضرورة جريان الربا في الدقيق والعجين وامتناع ضبط الحكم باسم البر لما وجب استنباط الطعم، فهذا له وجه وقد ذكرناه وإن لم يرد به هذا فلا وجه له‏.‏ السابع‏:‏ أن لا يتغير حكم الأصل بالتعليل ومعناه ما ذكرناه من أن العلة إذا عكرت على الأصل بالتخصيص فلا تقبل، كما ذكرناه في كتاب التأويل في مسألة الابدال، وقد بينا أن المعنى إن كان سابقا إلى الفهم جاز أن يكون قرينة مخصصة للعموم، أما المستنبط بالتأمل ففيه نظر‏.‏ الثامن‏:‏ أن لا يكون الأصل معدولا به عن سنن القياس، فإن الخارج عن القياس لا يقاس عليه غيره، وهذا مما أطلق ويحتاج إلى تفصيل، فنقول‏:‏ قد اشتهر في ألسنة الفقهاء أن الخارج عن القياس لا يقاس عليه غيره ويطلق اسم الخارج عن القياس على أربعة أقسام مختلفة فإن ذلك يطلق على ما استثنى من قاعدة عامة وتارة على ما استفتح ابتداء من قاعدة مقررة بنفسها لم تقطع من أصل سابق، وكل واحد من المستثنى والمستفتح ينقسم إلى ما يعقل معناه وإلى ما لا يعقل معناه، فهي أربعة أقسام‏:‏

الأول‏:‏ ما استثنى عن قاعدة عامة وخصص بالحكم

ولا يعقل معنى التخصيص، فلا يقاس عليه غيره لانه فهم ثبوت الحكم في محله على الخصوص، وفى القياس إبطال الخصوص المعلوم بالنص، ولا سبيل إلى إبطال النص بالقياس، بيانه ما فهم من تخصيص النبي عليه السلام واستثناؤه في تسع نسوة، وفي نكاح امرأة على سبيل الهبة من غير مهر‏.‏ وفي تخصيصه بصفي المغنم، وما ثبت من تخصيصه خزيمة بقبول شهادته وحده، وتخصيصه أبا بردة في العناق أنها تجزئ عنه في الضحية، فهذا لا يقاس عليه، لانه لم يرد ورود النسخ للقاعدة السابقة، بل ورود الاستثناء مع إبقاء القاعدة، فكيف يقاس عليه‏؟‏ وكونه خاصية لمن ورد في حقه تارة يعلم وتارة يظن، فالمظنون كاختصاص قوله‏:‏ لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا، وقوله في شهداء أحد‏:‏ زملوهم بكلومهم ودمائهم فقال أبو حنيفة‏:‏ لا ترفع به قاعدة الغسل في حق المحرمين والشهداء، لان اللفظ خاص، ويحتمل أن يكو الحكم خاصا لاطلاعه عليه السلام على إخلاصهم في العبادة، ونحن لا نطلع على موت غيرهم على الاسلام فضلا عن موتهم على الاحرام والشهادة، ولما قال للاعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان‏:‏ تصدق به على أهل بيتك ولم يقر الكفارة في ذمته عند عجزه وجعل الشبق عجزا عن الصوم، قال أكثر العلماء‏:‏ هو خاصية، وقال صاحب التقريب‏:‏ يلتحق به من يساويه في الشبق والعجز، ومن جعله خاصية استند فيه إلى أنه لو فتح هذا الباب فيلزم مثله في كفارة المظاهر وسائر الكفارات، ونص القرآن دليل على أنهم لا ينفكون عن واجب وإن اختلفت أحوالهم في العجز، فحمله على الخاصية أهون من هدم القواعد المعلومة‏.‏

القسم الثاني‏:‏ ما استثنى عن قاعدة سابقة

ويتطرق إلى استثنائه معنى، فهذا يقاس عليه كل مسألة دارت بين المستثنى والمستبقى، وشارك المستثنى في علة الاستثناء، مثاله‏:‏ استثناء العرايا، فإنه لم يرد ناسخا لقاعدة الربا ولا هادما لها، لكن استثني للحاجة، فنقيس العنب على الرطب، لانا نراه في معناه، وكذلك إيجاب صاع من تمر في لبن المصراة لم يرد هادما لضمان المثليات بالمثل، لكن لما اختلط اللبن الحادث بالكائن في الضرع عند البيع ولا سبيل إلى التمييز ولا إلى معرفة القدر‏.‏ وكان متعلقا بمطعوم يقرب الامر فيه خلص الشارع المتبايعين من ورطة الجهل بالتقدير بصاع من تمر، فلا جرم نقول‏:‏ لورد المصراة بعيب آخر لا بعيب التصرية فيضمن اللبن أيضا بصاع، وهو نوع الحاق وإن كان في معنى الأصل، ولولا أنا نشم منه رائحة المعنى لم نتجاسر على الالحاق، فإنه لما فرق في بول الصبيان بين الذكور والاناث وقال‏:‏ يغسل من بول الصبية، ويرش على بول الغلام ولم ينقدح فيه معنى لم يقس عليه الفرق في حق البهائم بين ذكورها وإناثها، وكذلك حكم الشرع ببقاء صوم الناسي على خلاف قياس المأمورات، قال ابو حنيفة‏:‏ لا نقيس عليه كلام الناسي في الصلاة ولا أكل المكره والمخطئ في المضمضة، ولكن قال‏:‏ جماع الناسي في معناه لان الافطار باب واحد، والشافعي قال‏:‏ الصوم من جملة المأمورات بمعناه إذا افتقر إلى النية والتحق بأركان العبادات، وهو من جملة المنهيات في نفسه وحقيقته، إذ ليس فيه إلا ترك يتصور من النائم جميع النهار فإسقاط الشرع عهدة الناسي ترجيح لنزوعه إلى المنهيات فنقيس عليه كلام الناسي، ونقيس عليه المكره والمخطئ على قول‏.‏

القسم الثالث‏:‏ القاعدة المستقلة المستفتحة التي لا يعقل معناها

فلا يقاس عليها غيرها لعدم العلة، فيسمى خارجا عن القياس تجوزا إذ معناه أنه ليس منقاسا، لانه لم يسبق عموم قياس ولا استثناء حتى يسمى المستثنى خارجا عن القياس بعد دخوله فيه، ومثاله المقدرات في أعداد الركعات ونصب الزكوات ومقادير الحدود والكفارات، وجميع التحكمات المبتدأة التي لا ينقدح فيها معنى، فلا يقاس عليها غيرها لانها لا تعقل علتها‏.‏

القسم الرابع‏:‏ في القواعد المبتدأة العديمة النظير لا يقاس عليها

مع أنه يعقل معناها، لانه لا يوجد لها نظير خارج مما تناوله النص والإجماع‏.‏ والمانع من القياس فقد العلة في غير المنصوص‏.‏ فكأنه معلل بعلة قاصرة، ومثاله‏:‏ رخص السفر في القصر والمسح على الخفين، ورخصة المضطر في أكل الميتة وضرب الدية على العاقلة، وتعلق الارش برقبة العبد وإيجاب غرة الجنين والشفعة في العقار وخاصية الاجارة والنكاح، وحكم اللعان والقسامة وغير ذلك من نظائرها، فإن هذه القواعد متباينة المأخذ، فلا يجوز أن يقال‏:‏ بعضها خارج عن قياس البعض، بل لكل واحد من هذه القواعد معنى منفرد به لا يوجد له نظير فيه، فليس البعض بأن يوضع أصلا ويجعل الآخر خارجا عن قياسه بأولى من عكسه، ولا ينظر فيه إلى كثرة العدد وقلته، وتحقيقه أنا نعلم أنه إنما جوز المسح على الخف لعسر النزع ومسيس الحاجة إلى استصحابه، فلا نقيس عليه العمامة والقفازين، وما لا يستر جميع القدم، لا لانه خارج عن القياس، لكن لانه لا يوجد ما يساويه في الحاجة وعسر النزع وعموم الوقوع، وكذلك رخصة السفر لاشك في ثبوتها بالمشقة، ولا يقاس عليها مشقة أخرى، لانها لا يشاركها غيرها في جملة معانيها ومصالحها، لان المرض يحوج إلى الجمع لا إلى القصر، وقد يقضي في حقه بالرد من القيام إلى القعود ولما ساواه في حاجة الفطر سوى الشرع بينهما، وكذلك قولهم‏:‏ تناول الميتة رخصة خارجة عن القياس غلط، لانه إن أريد به أنه لا يقاس عليه غير المضطر، فلانه ليس في معناه، وإلا فلنقس الخمر على الميتة، والمكره على المضطر، فهو منقاس، وكذلك بداءة الشرع بإيمان المدعي في القسامة لشرف أمر الدم ولخاصية لا يوجد مثلها في غيره، ولانه عديم النظير فلا يقاس عليه، وأقرب شئ إليه البضع وقد ورد تصديق المدعي باللعان على ما يليق به، وكذلك ضرب الدية على العاقلة فإن ذلك حكم الجاهلية قرره الشرع لكثرة وقوع الخطأ وشدة الحاجة إلى ممارسة السلاح، ولا نظير له في غير الدية، وهذا مما يكثر، فبهذا يعرف أن قول الفقهاء تأقت الاجارة خارج عن قياس البيع والنكاح خطأ، كقولهم‏:‏ تأبد البيع والنكاح خارج عن قياس الاجارة، وتأقت المساقاة خارج عن تأبد القراض بل تأبد القراض خارج عن قياس تأقت المسافاة، فإذا هذه الاقسام الاربعة لا بد من فهمها وبفهم بيانها يحصل الوقوف على سر هذا الأصل‏.‏ الركن الثاني للقياس وله خمسة شروط‏:‏ الشرط الأول‏:‏ أن تكون علة الأصل موجودة في الفرع فإن تعدي الحكم فرع تعدي العلة، فإن كان وجودها في الفرع غير مقطوع به لكنه مظنون صح الحكم، وقال قوم‏:‏ لا يجوز ذلك لان مشاركته للاصل في العلة لم تعلم، وإنما المعلوم بالقياس أن الحكم يتبع العلة ولا يقتصر على المحل أما إذا وقع الشك في العلة فلا يلحق وهذا ضعيف لانه إذا ثبت أن النجاسة هي علة بطلان البيع في جلد الميتة قسنا عليه الكلب إذا ثبت عندنا نجاسة الكلب بدليل مظنون، وكذلك قد يكون علة الكفارة العصيان ويدرك تحقيقه في بعض الصور بدليل ظني، فإذا ثبت التحق بالأصل، وكذلك الماء الكثير، إذا تغير بالنجاسة فطرح فيه التراب فإن كان التراب ساترا كالزعفران لم تزل النجاسة، وإن كان مبطلا كهبوب الريح وطول المدة زالت النجاسة وربما يعرف ذلك بدليل ظني فالظن كالعلم في هذه الابواب‏.‏ الثاني‏:‏ أن لا يتقدم الفرع في الثبوت على الأصل، ومثاله قياس الوضوء على التيمم في النية، والتيمم متأخر، وهذا فيه نظر لانه إذا كان بطريق الدلالة، فالدليل يجوز أن يتأخر عن المدلول، فإن حدوث العالم دل على الصانع القديم، وإن كان بطريق التعليل فلا يستقيم لان الحكم يحدث بحدوث العلة، فكيف يتأخر عن المعلول لكن يمكن العدول إلى طريق الاستدلال فإن إثبات الشرع الحكم في التيمم على وفق العلة يشهد لكونه ملحوظا بعين الاعتبار، وإن كان للعلة دليل آخر سوى التيمم، فلا يكون التيمم وحده دليلا لعلة الوضوء السابق‏.‏ الثالث‏:‏ أن لا يفارق حكم الفرع حكم الأصل في جنسية ولا في زيادة ولا نقصان، فإن القياس عبارة عن تعدية حكم من محل إلى محل، فكيف يختلف بالتعدية‏؟‏ وليس من شكل القياس قول القائل بلغ رأس المال أقصى مراتب الاعيان، فليبلغ المسلم فيه أقصى مراتب الديون، قياسا لاحد العوضين على الآخر، لان هذا إلحاق فرع بأصل في إثبات خلاف حكمه‏.‏ الرابع‏:‏ أن يكون الحكم في الفرع مما ثبتت حملته بالنص وإن لم يثبت تفصيله، وهذا ذكره أبو هاشم وقال‏:‏ لولا أن الشرع ورد بميراث الجد جملة لما نظرت الصحابة في توريث الجد مع الاخوة، وهذا فاسد، لانهم قاسوا قوله‏:‏ أنت علي حرام، على الظهار والطلاق واليمين، ولم يكن قد ورد فيه حكم لا على العموم ولا على الخصوص، بل الكم إذا ثبت في الأصل بعلة تعدي بتعدي العلة كيفما كان‏.‏ الخامس‏:‏ أن لا يكون الفرع منصوصا عليه، فإنه إنما يطلب الحكم بقياس أصل آخر فيما لا نص فيه، فإن قيل‏:‏ فلم قستم كفارة الظهار على كفارة القتل في الرقبة المؤمنة والظهار أيضا منصوص عليه، واسم الرقبة يشمل الكافرة‏؟‏ قلنا‏:‏ اسم الرقبة ليس نصا في إجزاء الكافرة، لكنه ظاهر فيه، كما في المعيبة، وعلة اشتراط الايمان في كفارة القتل عرفنا تخصيص عموم آية الظهار، فخرج عن أن يكون أجزاء الكافرة منصوصا عليه فطلبنا حكمه بالقياس لذلك‏.‏ الركن الثالث الحكم وشرطه أن يكون حكما شرعيا لم يتعبد فيه بالعلم، وبيانه بمسائل‏:‏

مسألة ‏(‏لا قياس في اللغويات والعقليات‏)‏

الحكم العقلي والاسم اللغوي لا يثبت بالقياس، فلا يجوز إثبات اسم الخمر للنبيذ، الزنا للواط، والسرقة للنبش، والخليط للجار بالقياس، لان العرب تسمي الخمر إذا حمضت خلا لحموضته، ولا تجريه في كل حامض، وتسمي الفرس أدهم لسواده ولا تجريه في كل أسود، وتسمي القطع في الآنف جدعا ولا تطرده في غيره، وهذه المسألة قد قدمناها فلا نعيدها، وكذلك لا يعرف كون المكره قاتلا، والشاهد قاتلا، والشريك قاتلا بالقياس، بل يتعرف حد القتل بالبحث العقلي، وكذلك غاصب الماشية هل هو غاصب للنتاج‏؟‏ والمستولي على العقار هل هو غاصب للغلة‏؟‏ فهذه مباحث عقلية تعرف بصناعة الجدل، نعم‏:‏ يجوز أن يقال‏:‏ ألحق الشرع الشريك بالمنفرد بالقتل حكما، فنقيس عليه الشريك في القطع والحق المكره بالقاتل فنقيس عليه الشاهد إذا رجع، وذلك إلحاق من ليس قائلا بالقاتل في الحكم‏.‏

مسألة ‏(‏لا قياس في الامور التعبدية‏)‏

ما تعبد فيه بالعلم لا يجوز إثباته بالقياس، كمن يريد إثبات خبر الواحد بالقياس على قبول الشهادة، ولذلك أورد في مثال هذا الباب إثبات صلاة سادسة أو صوم شوال، أنه لا يثبت بالقياس، لان مثل هذه الاصول ينبغي أن تكون معلومة، وهذا فيه نظر، إذ يمكن أن يقال‏:‏ إن الوتر صلاة سادسة وقد وقع الخلاف في وجوبها، فلم يشترط أن تكون السادسة معلومة الوجوب على القطع، بل سبب بطلان هذا القياس علمنا ببطلانه، لانه لو وجب صوم شوال وصلاة سادسة لكانت العادة تحيل أن لا يتواتر، أو لانا لا نجد أصلا نقيسه عليه، فإنه لا يمكن قياس شوال على رمضان، إذ لم يثبت لنا أن وجوب صوم رمضان لانه شهر من الشهور أو وقت من الاوقات، أو لو صف يشاركه فيه شوال حتى يقاس عليه‏.‏

مسألة ‏(‏قياس الدلالة وقياس العلة‏)‏

اختلفوا في أن النفي الأصلي هل يعرف بالقياس، وأعني بالنفي الأصلي البقاء على ما كان قبل ورود الشرع، والمختار أنه يجري فيه قياس الدلالة لا قياس العلة، وقياس الدلالة أن يستبدل بانتفاء الحكم عن الشئ على انتفائه عن مثله، ويكون ذلك ضم دليل إلى دليل، وإلا فهو باستصحاب موجب العقل النافي للاحكام قبل ورود الشرع مستغن عن الاستدلال بالنظر، أما قياس العلة فلا يجري، لان الصلاة السادسة وصوم شوال انتفى وجوبهما، لانه لا موجب لهما كما كان قبل ورود الشرع، وليس ذلك حكما حادثا سمعيا حتى تطلب له علة شرعية، بل ليس ذلك من أحكام الشرع، بل هو نفي لحكم الشرع ولا علة له إنما العلة لما يتجدد، فحدوث العالم له سبب، وهو إرادة الصانع، أما عدمه في الازل فلم تكن له علة، إذ لو أحيل على إرادة الله تعالى لوجب أن ينقلب موجودا لو قدرنا عدم المريد والارادة، كما أن الارادة لو قدر انتفاؤها لانتفى وجود العالم في وقت حدوثه، فإذا لم يكن الانتفاء الأصلي حكما شرعيا على لتحقيق لم يثبت بعلة سمعية، أما النفي الطارئ كبراءة الذمة عن الدين فهو حكم شرعي يفتقر إلى علة، فيجري فيه قياس العلة‏.‏

مسألة ‏(‏قياس الحكم المعلل‏)‏

كل حكم شرعي أمكن تعليله فالقياس جار فيه، وحكم الشرع نوعان‏.‏ أحدهما‏:‏ نفس الحكم‏.‏ والثاني‏:‏ نصب أسباب الحكم، فلله تعالى في إيجاب الرجم والقطع على الزاني والسارق حكمان‏.‏ أحدهما‏:‏ إيجاب الرجم والآخر‏:‏ نصب الزنا سببا لوجوب الرجم، فيقال‏:‏ وجب الرجم في الزنا لعلة كذا، وتلك العلة موجودة في اللواط فنجعله سببا وإن كان لا يسمى زنا‏.‏ وأنكر أبو زيد الدبوسي هذا النوع من التعليل وقال‏:‏ الحكم يتبع السبب دون حكمة السبب، وإنما الحكمة ثمرة وليست بعلة، فلا يجوز أن يقال جعل القتل سببا للقصاص للزجر والردع‏.‏ فينبغي أن يجب القصاص على شهود القصاص لمسيس الحاجة إلى الزجر وإن لم يتحقق القتل، وهذا فاسد‏.‏ والبرهان القاطع على أن هذا الحكم شرعي، أعني نصب الاسباب لايجاب الاحكام، فيمكن أن تعقل علته، ويمكن أن يتعدى إلى سبب آخر، فإن اعترفوا بإمكان معرفة العلة وإمكان تعديته ثم توقفوا عن التعدية كانوا متحكمين بالفرق بين حكم وحكم، كمن يقول‏:‏ يجري القياس في حكم الضمان لا في القصاص وفي البيع لا في النكاح، وإن ادعوا الاحالة فمن أين عرفوا استحالته، أبضرورة أو نظر، ولا بد من بيانه، كيف ونحن نبين إمكانه بالامثلة، فإن قيل‏:‏ الامكان مسلم في العقل، لكنه غير واقع، لانه لا يلفي للاسباب علة مستقيمة تتعدى، فنقول‏:‏ الآن قد ارتفع النزاع الاصولي، إذ لا ذاهب إلى تجويز القياس، حيث لا تعقل العلة أو لا تتعدى، وهم قد ساعدوا على جواز القياس، حيث أمكن معرفة العلة وتعديتها فارتفع الخلاف‏.‏ الجواب الثاني‏:‏ هو أنا نذكر إمكان القياس في الاسباب على منهجين‏:‏ المنهج الأول‏:‏ ما لقبناه بتنقيح مناط الحكم فنقول‏:‏ قياسنا اللائط والنباش على الزاني والسارق مع الاعتراق بخروج النباش واللائط عن اسم الزاني والسارق، كقياسكم الاكل على الجماع في كفارة الفطر مع أن الاكل لا يسمى وقاعا، وقد قال الاعرابي‏:‏ واقعت في نهار رمضان، فإن قيل ليس هذا قياسا، فإنا نعرف بالبحث أن الكفارة ليست كفارة الجماع، بل كفارة الافطار، قلنا وكذلك نقول‏:‏ ليس الحد حد الزنا، بل حد إيلاج الفرج في الفرج المحرم قطعا المشتهى طبعا، والقطع قطع أخذ مال محرز لا شبهة للاخذ فيه، فإن قيل‏:‏ إنما القياس أن يقال‏:‏ علق الحكم بالزنا لعلة كذا وهي موجودة في غير الزنا، وعلقت الكفارة بالوقاع لعلة كذا‏.‏ وهي موجودة في الاكل، كما يقال أثبت التحريم في الخمر لعلة الشدة، وهي موجودة في النبيذ، ونحن في الكفارة نبين أنه لم يثبت الحكم للجماع، ولم يتعلق به، فنتعرف، محل الحكم الوارد شرعا أنه أين ورد وكيف ورد، وليس هذا قياسا، فإن استمر لكم مثل هذا في اللائط والنباش فنحن، لا ننازع فيه، قلنا‏:‏ فهذا الطريق جار لنا في اللائط والنباش بلا فرق، وهو نوع إلحاق لغير المنصوص بالمنصوص بفهم العلة التي هي مناط الحكم، فيرجع النزاع إلى الاسم‏.‏ المنهج الثاني‏:‏ هو أنا نقول‏:‏ إذا انفتح باب المنهج الأول تعدينا إلى إيقاع الحكم والتعليل بها، فإنا لسنا نعني بالحكمة إلا المصلحة المخيلة المناسبة، كقولنا في قوله عليه السلام‏:‏ لا يقض القاضي وهو غضبان إنه إنما جعل الغضب سبب المنع، لانه يدهش العقل، ويمنع من استيفاء الفكر، وذلك موجود في الجوع المفرط، والعطش المفرط، والالم المبرح، فنقيسه عليه وكقولنا أن الصبي يولي عليه لحكمة، وهي عجزه عن النظر لنفسه، فليس الصبا سبب الولاية لذاته، بل لهذه الحكمة، فننصب الجنون سببا قياسا على الصغر، والدليل على جواز مثل ذلك اتفاق عمر وعلي رضي الله عنهما على جواز قتل الجماعة بالواحد، والشرع إنما أوجب القتل على القاتل، والشريك ليس بقاتل على الكمال، لكنهم قالوا‏:‏ إنما اقتص من القاتل لاجل الزجر وعصمة الدماء، وهذا المعنى يقتضي إلحاق المشارك بالمنفرد، ونزيد على هذا القياس ونقول‏:‏ هذه الحكمة جريانها في الاطراف كجريانها في النفوس، فيصان الطرف في القصاص عن المشارك كما يصان عن المنفرد، وكذلك نقول‏:‏ يجب القصاص بالجارح لحكمة الزجر وعصمة الدماء، فالمثقل في معنى الجارح بالاضافة إلى هذه العلة، فهذه تعليلات معقولة في هذه الاسباب لا فرق بينها وبين تعليل تحريم الخمر بالشدة، وتعليل ولاية الصغر بالعجز، ومنع الحكم بالغضب فإن قيل‏:‏ المانع منه أن الزجر حكمة، وهي ثمرة، وإنما تحصل بعد القصاص وتتأخر عنه، فكيف تكون علة وجوب القصاص، بل علة وجوب القصاص القتل‏.‏ قلنا‏:‏ مسلم أن علة وجوب القصاص القتل، لكن علة كون القتل علة للقصاص الحاجة إلى الزجر، والحاجة إلى الزجر هي العلة دون نفس الزجر، والحاجة سابقة، وحصول الزجر هو المتأخر إذ يقال‏:‏ خرج الامير عن البلد للقاء زيد، ولقاء زيد يقع بعد خروجه، ولكن تكون الحاجة إلى اللقاء علة باعثة على الخروج سابقة عليه، وإنما المتأخر نفس اللقاء، فكذلك الحاجة إلى عصمة الدماء هي الباعثة للشرع على جعل القتل سببا للقصاص، والشريك في هذا المعنى يساوي المنفرد، والمثقل يساوي الجارح فألحق به قياسا‏.‏

مسألة ‏(‏قياس الحدود والكفارات‏)‏

نقل عن قوم أن القياس لا يجري في الكفارات والحدود، وما قدمناه يبين فساد هذا الكلام، فإن إلحاق الاكل بالجماع قياس وإلحاق النباش بالسارق قياس، فإن زعموا أن ذلك تنقيح لمناط الحكم لا استنباط للمناط، فما ذكروه حق والانصاف يقتضي مساعدتهم إذ فسروا كلامهم بهذا فيجب الاعتراف بأن الجاري في الكفارات والحدود، بل وفي سائر أسباب الاحكام المنهج الأول في الالحاق دون المنهج الثاني، وأن المنهج الثاني يرجع إلى تنقيح مناط الحكم وهو المنهج الأول، فإنا إذا ألحقنا المجنون بالصبي بان لنا أن الصبا لم يكن مناط الولاية، بل أمر أعم منه، وهو فقد عقل التدبير، وإذا ألحقنا الجوع بالغضب بان لنا أن الغضب لم يكن مناطا بل أمر أعم منه، وهو ما يدهش العقل عن النظر، وعند هذا يظهر الفرق للمنصف بين تعليل الحكم وتعليل السبب‏.‏ فإن تعليل الحكم تعدية الحكم عن محله وتقريره في محله، فإنا نقول‏:‏ حرم الشرع شرب الخمر، والخمر محل الحكم ونحن نطلب مناط الحكم وعلته، فإذا تبينت لنا الشدة عديناها إلى النبيذ، فضممنا النبيذ إلى الخمر في التحريم، ولم نغير من أمر الخمر شيئا، أما ههنا إذا قلنا علق الشرع الرجم بالزنا لعلة كذا فيلحق به غير الزنا، يناقض آخر الكلام أوله، لان الزنا إن كان مناطا من حيث أنه زنا، فإذا ألحقنا به ما ليس بزنا فقد أخرجنا الزنا عن كونه مناطا، فكيف يعلل كونه مناطا، بما يخرجه عن كونه مناطا والتعليل تقرير لا تغيير، ومن ضرورة تعليل الاسباب تغييرها فإنك إذا اعترفت بكونه سببا ثم أثبت ذلك الحكم بعينه عند فقد ذلك السبب فقد نقضت قولك الأول أنه سبب، فإنا إذا ألحقنا الاكل بالجماع بان لنا بالآخرة أن الجماع لم يكن هو السبب بل معنى أعم منه وهو الافطار وإنما كان يكون هذا تعليلا لو بقي الجماع مناطا وانضم إليه مناط آخر يشاركه في العلة، كما بقي الخمر محلا للتحريم، وانضم إليه محل آخر وهو النبيذ، فلم يخرج المحل الذي طلبنا علة حكمه عن كونه محلا لكن انضم إليه محل آخر وهو النبيذ وكذلك ينبغي أن لا يخرج الجماع عن كونه مناطا وينضم إليه مناط آخر وهو الاكل، وذلك محال، بل الحاق الاكل يخرج وصف الجماع عن كونه مناطا، ويوجب حذفه عن درجة الاعتبار، ويوجب إضافة الحكم إلى معنى آخر حتى يصير وصف الجماع حشوا زائدا، وكذلك يصير وصف الزنا حشوا زائدا، ويعود الامر إلى أن مناط الرجم وصف زائد، لان مناط الرجم أمر أعم من الزنا، وهو إيلاج فرج في فرج حرام، فإذا مهما فسر مذهبهم على هذا الوجه اقتضى الانصاف المساعدة والله أعلم‏.‏ الركن الرابع العلة ويجوز أن تكون العلة حكما كقولنا‏:‏ بطل بيع الخمر، لان حرم الانتفاع به، ولانه نجس، وغلط من قال أن الحكم أيضا يحتاج إلى علة فلا يعلل به، ويجوز أن يكون وصفا محسوسا عارضا كالشدة، أو لازما كالطعم والنقدية والصغر أو من أفعال المكلفين كالقتل والسرقة، أو وصفا مجردا أو مركبا من أوصاف، ولا فرق بين أن يكون نفيا أو إثباتا، ويجوز أن يكون مناسبا وغير مناسب أو متضمنا لمصلحة مناسبة، ويجوز أن لا تكون العلة موجودة في محل الحكم، كتحريم نكاح الامة بعلة رق الولد، وتفارق العلة الشرعية في بعض هذه المعاني العلة العقلية على ما بينا في كتاب التهذيب ولم نر فيه فائدة، لان العلة العقلية مما لا نراها أصلا، فلا معنى لقولهم‏:‏ العلم علة كون العالم عالما، لا كون الذات عالمة، ولا أن العالمية حال وراء قيام العلم بالذات، فلا وجه لهذا عندنا في المعقولات، بل لا معنى لكونه عالما إلا قيام العلم بذاته‏.‏ وأما الفقهيات فمعنى العلة فيها العلامة وسائر الاقسام التي ذكرناها يجوز أن ينصبها الشارع علامة‏.‏ فالذي يتعرض له في هذا الركن كيفية إضافة الحكم إلى العلة، ويتهذب ذلك بالنظر في أربع مسائل‏:‏ إحداها‏:‏ تخلف الحكم عن العلة مع وجودها وهو الملقب بالنقض والتخصيص‏.‏ و الثانية‏:‏ وجود الحكم دون العلة، وهو الملقب بالعكس وتعليل الحكم بعلتين و الثالثة‏:‏ أن الحكم في محل النص يضاف إلى النص أو إلى العلة وعنه تتشعب الرابعة‏:‏ وهي العلة القاصرة‏.‏‏.‏

مسألة ‏(‏تخصيص العلة‏)‏

اختلفوا في تخصيص العلة، ومعناه أن فقد الحكم مع وجود العلة يبين فساد العلة وانتفاضها أو يبقيها علة، ولكن يخصصها بما وراء موقعها، فقال قوم‏:‏ إنه ينقض العلة و يفسدها‏.‏ ويبين أنها لم تكن علة، إذ لو كانت لا طردت ووجد الحكم حيث وجدت، و قال قوم‏:‏ تبقى علة فيما وراء النقض وتخلف الحكم عنها يخصصها، كتخلف حكم العموم، فإنه يخصص العموم بما وراءه، وقال قوم‏:‏ إن كانت العلة مستنبطة مظنونة انتقضت وفسدت، وإن كانت منصوصا عليها تخصصت ولم تنتقض، وسبيل كشف الغطاء عن الحق أن نقول‏:‏ تخلف الحكم عن العلة يعرض على ثلاثة أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أن يعرض في صوب جريان العلة ما يمنع اطرادها وهو الذي يسمى نقضا‏.‏ وهو ينقسم إلى ما يعلم أنه ورد مستثنى عن القياس، وإلى ما لا يظهر ذلك منه فما ظهر أنه ورد مستثنى عن القياس مع استبقاء القياس، فلا يرد نقضا على القياس ولا يفسد العلة، بل يخصصها بما وراء المستثنى، فتكون علة في غير محل الاستثناء ولا فرق بين أن يرد ذلك على علة مقطوعة أو مظنونة، مثال الوارد على العلة المقطوعة‏:‏ إيجاب صاع من التمر في لبن المصراة، فإن علة إيجاب المثل في المثليات المتلفة تماثل الاجزاء، والشرع لم ينقض هذه العلة، إذ عليها تعويلنا في الضمانات، لكن استثنى هذه الصورة، فهذا الاستثناء لا يبين للمجتهد فساد هذه العلة، ولا ينبغي أن يكلف المناظر الاحتراز عنه حتى يقول في علته تماثل أجزاء في غير المصراة، فيقتضي إيجاب المثل، لان هذا تكليف قبيح، وكذلك صدور الجناية من الشخص علة وجوب الغرامة عليه، فورود الضرب على العاقلة لم ينقض هذه العلة ولم يفسد هذا القياس، لكن استثنى هذه الصورة فتخصصت العلة بما وراءها، ومثال ما يرد على العلة المظنونة مسألة العرايا، فإنها لا تنقض التعليل بالطعم إذ فهم أن ذلك استثناء لرخصة الحاجة، ولم يرد ورود النسخ للربا، ودليل كونه مستثنى أنه يرد على علة الكيل وعلى كل علة، وكذلك إذا قلنا عبادة مفروضة، فتفتقر إلى تعيين النية لم تنتقض بالحج، فإنه ورد على خلاف قياس العبادات، لانه لو أهل بإهلال زيد صح ولا يعهد مثله في العبادات، أما إذا لم يرد مورد الاستثناء فلا يخلو إما أن يرد على العلة المنصوصة أو على المظنونة، فإن ورد على المنصوصة فلا يتصور هذا إلا بأن ينعطف منه قيد على العلة، ويتبين أن ما ذكرناه لم يكن تمام العلة، مثاله قولنا‏:‏ خارح فينقض الطهارة أخذا من قوله‏:‏ الوضوء مما خرج، ثم بأن أنه لم يتوضأ من الحجامة، فعلمنا أن العلة بتمامها لم يذكرها، وأن العلة خارج من المخرج المعتاد، فكان ما ذكرناه بعض العلة، فالعلة إن كانت منصوصة ولم يرد النقض مورد الاستثناء لم يتصور إلا كذلك، فإن لم تكن كذلك فيجب تأويل التعليل، إذ قد يرد بصيغة التعليل ما لا يراد به التعليل لذلك الحكم، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين‏}‏ ‏(‏الحشر‏:‏ 2‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله‏}‏ ‏(‏الحشر‏:‏ 4‏)‏ وليس كل من يشاقق الله يخرب بيته، فتكون العلة منقوضة، ولا يمكن أن يقال إنه علة في حقهم خاصة، لان هذا يعد تهافتا في الكلام، بل نقول‏:‏ تبين بآخر الكلام أن الحكم المعلل ليس هو نفس الخراب، بل استحقاق الخراب خرب أو لم يخرب‏.‏ أو نقول‏:‏ ليس الخراب معلولا بهذه العلة لكونه خرابا بل لكونه عذابا، وكل من شاق الله وسوله فهو معذب إما بخراب البيت أو غيره، فإن لم يتكلف مثل هذا كان الكلام منتقضا، أما إذا ورد على العلة المظنونة لا في معرض الاستثناء، وانقدح جواب عن محل النقض من طريق الا خالة، أن كانت العلة مخيلة أو من طريق الشبه إن كانت شبها، فهذا بين أن ما ذكرناه أولا لم يكن تمام العلة، وانعطف قيد على العلة من مسألة النقض به يندفع النقص‏.‏ أما إذا كانت العلة مخيلة ولم ينقدح جواب مناسب وأمكن أن يكون النقض دليلا على فساد العلة وأمكن أن يكون معرفا اختصاص العلة بمجراها بوصف من قبيل الاوصاف الشبيهة يفصلها عن غير مجراها، فهذا الاحتراز عنه مهم في الجدل للمتناظرين لكن المجتهد الناظر ماذا عليه أن يعتقد في هذه العلة الانتقاض والفساد أو التخصيص، هذا عندي في محل الاجتهاد، ويتبع كل مجتهد ما غلب على ظنه، ومثاله قولنا‏:‏ صوم رمضان يفتقر إلى النية، لان النية لا تنعطف على ما مضى، وصوم جميع النهار واجب، وأنه لا يتجزأ فينتقض هذا بالتطوع، فإنه لا يصح إلا بنية، ولا يتجزأ على المذهب الصحيح، ولا مبالاة بمذهب من يقول إنه صائم بعض النهار فيحتمل أن ينقدح عند المجتهد فساد هذه العلة بسبب التطوع، ويحتمل أن ينقدح له أن التطوع ورد مستثنى رخصة لتكثير النوافل، فإن الشرع قد سامح في النفل بما لم يسامح به في الفرض، فالمخيل الذي ذكرناه يستعمل في الفرض ويكون وصف الفرضية فاصلا بين مجرى العلة وموقعها، ويكون ذلك وصفا شبيها اعتبر في استعمال المخيل وتميز مجراه عن موقعه، ومن أنكر قياس الشبه جوز الاحتراز عن النقض بمثل هذا الوصف الشبهي، فأكثر العلل المخيلة خصص الشرع اعتبارها بمواضع لا ينقدح في تعيين المحل معنى مناسب على مذاق أصل العلة، وهذا التردد إنما ينقدح في معنى مؤثرة لا يحتاج ألى شهاده الأصل فإن مقدمات هذا القياس مؤثر بالاتفاق من قولنا أن كل اليوم واجب وإن النبه عزم لا ينعطف على الماضي، وإن الصوم لا يصح إلا بنية، فإن كانت العلة مناسبة بحيث تفتقر إلى أصل يستشهد به، فإنما يشهد لصحته ثبوت الحكم في موضع آخر على وفقه فتنتقض هذه الشهادة بتخلف الحكم عنه في موضع آخر، فإن إثبات الحكم على وفق المعنى إن دل على التفات الشرع فقطع الحكم أيضا يدل على إعراض الشرع، وقول القائل‏:‏ أنا أتبعه إلا في محل إعراض الشرع بالنص ليس هو أولى ممن قال‏:‏ أعرض عنه إلا في محل اعتبار الشرع إياه بالتنصيص على الحكم، وعلى الجملة‏:‏ يجوز أن يصرح الشرع بتخصيص العلة واستثناء صورة حكم عنها، ولكن إذا لم يصرح واحتمل نفي الحكم مع وجود العلة احتمل أن يكون لفساد العلة، واحتمل أن يكون لتخصيص العلة، فإن كانت العلة قطعية كان تنزيلها على التخصيص أولى من التنزيل على نسخ العلة، وإن كانت العلة مظنونة ولا مستند للظن إلا إثبات الحجم في موضع على وفقها فينقطع هذا الظن بإعراض الشرع عن اتباعها في موضع آخر، وإن كانت مستقلة مؤثرة كما ذكرناه في مسألة تبييت النية كان ذلك في محل الاجتهاد‏.‏ الوجه الثاني‏:‏ لانتفاء حكم العلة أن ينتفي لا لخلل في نفس العلة، لكن يندفع الحكم عنه بمعارضة علة أخرى دافعة، مثاله قولنا‏:‏ إن علة رق الولد ملك الام ثم المغرور بحرية جارية ينعقد ولده حرا‏.‏ وقد وجد رق الام وانتفى الولد، لكن هذا انعدام بطريق الاندفاع بعلة دافعة مع كمال العلة المرقة، بدليل أن الغرم يجب على المغرور، ولولا أن الرق في حكم الحاصل المندفع لما وجبت قيمة الولد، فهذا النمط لا يرد نقضا على المناظر، ولا يبين لنظر المجتهد فسادا في العلة، لان الحكم ههنا كأنه حاصل تقديرا‏.‏ الوجه الثالث‏:‏ أن يكون النقض مائلا عن صوب جريان العلة، ويكون تخلف الحكم لا لخلل في ركن العلة، لكن لعدم مصادفتها محلها أشرطها أو أهلها، كقولنا‏:‏ السرقة علة القطع، وقد وجدت في النباش، فليجب القطع، فقيل‏:‏ يبطل بسرقة ما دون النصاب وسرقة الصبي والسرقة من غير الحرز، ونقول‏:‏ البيع علة الملك، وقد جرى فليثبت الملك في زمان الخيار، فقيل‏:‏ هذا باطل ببيع المستولدة والموقوف والمرهون وأمثال ذلك فهذا جنس لا يلتفت إليه المجتهد، لان نظره في تحقيق العلة دون شرطها، ومحلها فهو مائل عن صوب نظره‏.‏ أما المناظر فهل يلزمه الاحتراز عنه أو يقبل منه العذر بأن هذا منحرف عن مقصد النظر وليس عليه البحث عن المحل والشرط‏؟‏ هذا مما اختلف الجدليون فيه، والخطب فيه يسير، فالجدل شريعة وضعها الجدليون، وإليهم وضعها كيف شاؤوا، وتكلف الاحتراز أجمع لنشر الكلام، وذلك بأن يقول‏:‏ بيع صدر من أهله وصادف محله، وجمع شرطه، فيفيد الملك ويقول سرق نصابا كاملا من حرز لا شبهة له فيه فيفيد القطع، فإن قيل‏:‏ فقد ذكرتم أن النقض إذا ورد على صوب جريان العلة وكان مستثنى عن القياس لم يقبل فبم يعرف الاستثناء وما من معلل يرد عليه نقض إلا وهو يدعي ذلك، قلنا‏:‏ أما المجتهد فلا يعاند نفسه فيتبع فيه موجب ظنه، وأما المناظر فلا يقبل ذلك منه، إلا أن يبين اضطرار الخصم إلى الاعتراف بأنه على خلاف قياسه أيضا، فإن قياس أبي حنيفة في الحاجة إلى تعيين النية يوجب افتقار الحج إلى التعيين، فهو خارج عن قياسه أيضا، فإن أمكنه إبراز قياس سوى مسألة النقض على قياس نفسه كانت علته المطردة أولى من علته المنقوضة، ولم تقبل دعوى المعلل أنه خارج عن القياس، فإن قيل‏:‏ فحيث أوردتم مسألة المصراة مثالا فهل تقولون إن العلة موجودة في مسألة المصراة، وهي تماثل الاجزاء، لكن اندفع الحكم بمانع النص، كما تقولون في مسألة المغرور بحرية الولد، قلنا‏:‏ لا، لان التماثل ليس علة لذاته، بل يجعل الشرع إياه علامة على الحكم، فحيث لم يثبت الحكم لم يجعله علامة فلم يكن علة، كما أنا لا نقول الشدة الموجودة قبل تحريم الخمر كانت علة، لكن لم يرتب الشرع عليها الحكم، بل ما صارت علة إلا حيث جعلها الشرع علة، وما جعلها علة إلا بعد نسخ إباحة الشرب، فكذلك التماثل ليس علة في مسألة المصراة، بخلاف مسألة المغرور، فإن الحكم فيه ثابت تقديرا، وكأنه ثبت ثم اندفع فهو في حكم المنقطع لا في حكم الممتنع، ولو نصب شبكة ثم مات فتعقل بها صيد لقضى منه ديونه، ويستحقه ورثته لان نصب الشبكة سبب ملك الناصب للصيد‏.‏ ولكن الموت حالة تعقل الصيد دفع الملك فتلقاه الوارث، وهو في حكم الثابت للميت المنتقل إلى الوارث، فليفهم دقيقة الفرق بينهما‏.‏ فإن قيل‏:‏ إذا لم يكن التماثل علة في المصراة فقد انعطف به قيد على التماثل، أفتقولون العلة في غير المصراة التماثل المطلق أو تماثل مضاف إلى غير المصراة‏؟‏ فإن قلتم هو مطلق التماثل ومجرده فهو محال لانه موجود في المصراة ولا حكم‏.‏ وإن قلتم هو تماثل مضاف فليجب على المعلل الاحتراز، فإنه إذا ذكر التماثل المطلق فقد ذكر بعض العلة، إذ ليست العلة مجرد التماثل، بل التماثل مع قيد الاضافة إلى غير المصراة، وعند هذا يكون انتفاء الحكم في مسألة المصراة لعدم العلة فلا يكون نقضا للعلة ولا تخصيصا، فإذا قال القائل‏:‏ اقتلوا زيدا لسواده، اقتضى ظاهره قتل كل أسود، فلو ظهر بنص قاطع أنه ليس يقتل إلا زيد فقد بان أن العلة لم تكن السواد المطلق، بل سواد زيد وسواد زيد لا يوجد إلا في زيد، فإن لم يقتل غيره فلعدم العلة لا لخصوص العلة ولا لانتقاضها ولا لاستثنائها عن العلة‏.‏ والجواب‏:‏ أن هذا منشأ تخبط الناس في هذه المسألة، وسبب غموضها أنهم تكلموا في تسمية مطلق التماثل علة قبل معرفة حد العلة، وأن العلة الشرعية تسمى علة أي اعتبار، وقد أطلق الناس اسم العلة باعتبارات مختلفة، ولم يشعروا بها، ثم تنازعوا في تسمية مثل هذا علة، وفي تسمية مجرد السبب علة دون المحل والشرط، فنقول‏:‏ اسم العلة مستعار في العلامات الشرعية، وقد استعاروها من ثلاثة مواضع على أوجه مختلفة‏:‏ الأول‏:‏ الاستعارة من العلة العقلية، وهو عبارة عما يوجب الحكم لذاته، فعلى هذا لا يسمى التماثل علة لانه بمجرده لا يوجب الحكم، ولا يسمى السواد علة بل سواد زيد، ولا تسمى الشدة المجردة علة، لانه بمجرده لا يوجب الحكم بل شدة في زمان‏.‏ الثاني‏:‏ الاستعارة من البواعث، فإن الباعث على الفعل يسمى علة الفعل فمن أعطى فقيرا فيقال‏:‏ أعطاه لفقره فلو علل به ثم منع فقيرا آخر فقيل له لم تعطه وهو فقير‏؟‏ فيقول لانه عدوي ومنع فقيرا ثالثا وقال‏:‏ لانه معتزلي، فلذلك لم أعطه فمن تغلب على طبعه عجرفة الكلام وجدله، فقد يقول‏:‏ أخطأ في تعليلك الأول، فكان من حقك أن تقول أعطيته لانه فقير وليس عدوا ولا هو معتزلي ومن بقي على الاستقامة التي يقتضيها أصل الفطرة وطبع المحاورة لم يستبعد ذلك ولم يعده متناقضا، وجوز أن يقول‏:‏ أعطيته لانه فقير، لان باعثه هو الفقر، وقد لا يحضره عند الاعطاء العداوة والاعتزال ولا انتفاؤهما، ولو كانا جزأين من الباعث لم ينبعث إلا عند حضورهما في ذهنه، وقد انبعث ولم يخطر بباله إلا مجرد الفقر فمن جوز تسمية الباعث علة فيجوز أن يسمجرد التماثل علة لانه الذي يبعثنا على إيجاب المثل في ضمانه، وإن لم يخطر ببالنا إضافنه إلى غير المصراة، فإنه قد لا تحضرنا مسألة المصراة أصلا في تلك الحالة‏.‏ المأخذ الثالث‏:‏ لاسم العلة علة المريض وما يظهر المرض عنده كالبرودة فإنها علة المرض مثلا، والمرض يظهر عقيب غلبة البرودة، وإن كان لا يحصل بمجرد البرودة، بل ربما ينضاف إليها من المزاج الأصلي أمور مثلا كالبياض، لكن انضاف المرض إلى البرودة الحادثة وكما ينضاف الهلاك إلى اللطم الذي تحصل التردية به في، البئر، وإن كان مجرد اللطم لا يهلك دون البئر لكن يحال بالحكم على اللطم لا على التردية التي ظهر بها الهلاك دون ما تقدم، وبهذا الاعتبار سمى الفقهاء الاسباب عللا فقالوا‏:‏ علة القصاص القتل، وعلة القطع السرقة، ولم يلتفوا إلى المحل والشرط، فعلى هذا المأخذ أيضا يجوز أن يسمى التماثل المطلق علة، وإذا عرف هذا المأخذ فمن قال مجرد التماثل هل هو علة، فيقال له‏:‏ ما الذي تفهم من العلة وما الدي تعني بها‏؟‏ فإن عنيت بها الموجب للحكم فهذا بمجرده لا يوجب فلا يكون علة، وهذا هو اللائق بمن غلب طبع الكلام، ولهذا أنكر الاستاذ أبو إسحق تخصيص العلة وإن كانت منصوصة وقال‏:‏ يصير التخصيص قيدا مضموما إلى العلة، ويكون المجموع هو العلة وانتفاء الحكم عند انتفاء المجموع وفاء بالعلة، وليس بنقص لها، وإن عنيت به الباعث أو ما يظهر الحكم به عند الناظر وإن غفل عن غيره فيجوز تسميته علة، هذا حكم النظر في التسمية في حق المجتهد، أما الاحتراز في الجدل فهو تابع للاصطلاح، ويقبح أن يكلف الاحتراز فيه فيقول‏:‏ تماثل في غير المصراة وشدة في غير ابتداء الاسلام وما يجري مجراه‏.‏ وأعلم أن العلة إن أخذت من العلة العقلية لم يكن للفرق بين المحل والعلة والشرط معنى بل العلة المجموع والمحل والاهل وصف من أوصاف العلة‏:‏ ولا فرق بين الجميع، لان العلة هي العلامة، وإنما العلامة جملة الاوصاف والاضافات، نعم لا ينكر ترجيح البعض على البعض في أحكام الضمان وغيرها، إذ يحال الضمان على المردي دون الحافر، وإن كان الهلاك لا يتم إلا بهما لنوع من الترجيح‏.‏ وكذلك لا ينكرون أن تعجيل الزكاة قبل الحول لا يدل على تعجيل الزكاة قبل تمام النصاب، وإن كان كل واحد لا بد منه، لكن ربما لا ينقدح للمجتهد التسوية بين جميع أجزاء العلة ويراها متفاوتة في مناسبة الحكم، ولا يمتنع أيضا الاصطلاح على التعبير عن البعض بالمحل وعن البعض بركن العلة، وهذا فيه كلام طويل ذكرناه في كتاب شفاء الغليل، ولم نورده ههنا لانها مباحث فقهية قد استوفيناها في الفقه، فلا نطول الاصول بها‏.‏

مسألة ‏(‏تعليل الحكم بعلتين‏)‏

اختلفوا في تعليل الحكم بعلتين‏.‏ والصحيح عندنا جوازه لان العلة الشرعية علامة، ولا يمتنع نصب علامتين على شئ واحد، وإنما يمتنع هذا في العلل العقلية، ودليل جوازه وقوعه، فإن من لمس ومس وبال في وقت واحد ينتقض وضوؤه، ولا يحال على واحد من هذه الاسباب، ومن أرضعته زوجة أخيك وأختك أيضا أو جمع لبنهما وانتهى إلى حلق المرضع في لحظة واحدة حرمت عليك، لانك خالها وعمها والنكاح فعل واحد، وتحريمه حكم واحد، ولا يمكن أن يحال على الخؤولة دون العمومة أو بعكسه، ولا يمكن أن يقال‏:‏ هما تحريمان وحكمان، بل التحريم له حد واحد وحقيقة واحدة، ويستحيل اجتماع مثلين، نعم لو فرض رضاع ونسب فيجوز أن يرجح‏:‏ النسب لقوته، أو اجتمع ردة وعدة وحيض فيحرم الوطئ، فيجوز أن يتوهم تعديد التحريمات ولو قتل وارتد فيجوز أن يقال المستحق قتلان ولو قتل شخصين فكذلك، ولو باع حرا بشرط خيار مجهول ربما قيل‏:‏ علة البطلان الحرية دون الخيار، فهذه أوهام ربما تنقدح في بعض المواضع، وإنما فرضناه في اللمس والمس والخؤولة والعمومة لدفع هذه الخيالات، فدل هذا على إمكان نصب علامتين على حكم واحد وعلى وقوعه أيضا، فإن قيل‏:‏ فإذا قاس المعلل على أصل بعلة فذكر المعترض علة أخرى في الأصل بطل قياس المعلل، وإن أمكن الجمع بين علتين فلم يقبل هذا الاعتراض فنقول‏:‏ إنما يبطل به استشهاده بالأصل إن كانت علته ثابتة بطريق المناسبة المجردة دون التأثير، أو بطريق العلامة الشبيهة أما إن كان بطريق التأثير، أعني ما دل النص أو الإجماع على كونه علة، فاقتران علة أخرى بها لا يفسدها، كالبول والمس والخؤولة والعمومة في الرضاع، إذ دل الشرع على أن كل واحد من المعنيين علة على حيالها، أما إذا كان إثباته بشهادة الحكم والمناسبة انقطع الظن بظهور علة أخرى‏.‏ مثاله‏:‏ إن من أعطى إنسانا فوجدناه فقيرا ظننا أنه أعطاه لفقره وعللناه به، وإن وجدناه قريبا عللنا بالقرابة، فإن ظهر لنا الفقر بعد القرابة أمكن أن يكون الاعطاء للفقر لا للقرابة، أو يكون لاجتماع الامرين، فيزول ذلك الظن، لان تمام ذلك الظن بالسبر، وهو أنه لا بد من باعث على العطاء، ولا باعث إلا الفقر، فإذا هو الباعث أو لا باعث إلا القرابة فإذا هو الباعث، فإذا ظهرت علة أخرى بطلت إحدى مقدمتي السبر، وهو أنه لا باعث إلا كذا، وكذلك عتقت بريرة تحت عبد، فخيرها النبي عليه السلام فيقول أبو حنيفة خيرها لملكها نفسها ولزوال قهر الرق عنها، فإنها كانت مقهورة في النكاح، وهذا مناسب، فيبني عليه تخييرها، وإن عتقت تحت حر فقلنا‏:‏ العلة خيرها لتضررها بالمقام تحت عبد، ولا يجري ذلك في الحر فكيف يلحق به، وإمكان هذا يقدح في الظن الأول، فإنه لا دليل له عليه إلا المناسبة، ودفع الضرر أيضا مناسب، وليست الحوالة على ذلك أولى من هذا، إلا أن يظهر ترجيح لاحد المعنيين، وأما مثال العلامة الشبهية فعلة الربا فإنه لم يذهب أحد إلى الجمع بين القوت والطعم والكيل، على أن كل واحد علة، لانه لم يقم دليل من جهة النص والإجماع، بل طريقة إظهار الضرورة في طلب علامة ضابطة مميزة مجرى الحكم عن موقعه إذ جرى الربا في الخبز والعجين مع زوال اسم البر، فلا يتم النظر إلا بقولنا، ولا بد من علامة، ولا علامة أولى من الطعم، فإذا هو العلامة، فإذا ظهرت علامة أخرى مساوية بطلت المقدمة الثانية من النظر، فانقطع الظن، والحاصل أن كل تعليل يفتقر إلى السبر فمن ضرورته اتحاد العلة، وإلا انقطع شهادة الحكم للعلة، وما لا يفتقر إلى السبر كالمؤثر فوجود علة أخرى لا يضر، وقد ذكرنا هذا في خواص هذه الاقيسة‏.‏

مسألة ‏(‏اشتراط العكس في العلة‏)‏

اختلفوا في اشتراط العكس في العلل الشرعية، وهذا الخلاف لا معنى له، بل لا بد من تفصيل، وقبل التفصيل فاعلم أن العلامات الشرعية دلالات، فإذا جاز اجتماع دلالات لم يكن من ضرورة انتفاء بعضها انتفاء الحكم، لكنا نقول‏:‏ إن لم يكن للحكم إلا علة واحدة فالعكس لازم لا، لان انتفاء العلة يوجب انتفاء الحكم، بل لان الحكم لا بد له من علة، فإذا اتحدت العلة وانتفت، فلو بقي الحكم لكان ثابتا بغير سبب، أما حيث تعددت العلة فلا يلزم انتفاء الحكم عند انتفاء بعض العلل، بل عند انتفاء جميعها‏.‏ والذي يدل على لزوم العكس عند اتحاد العلة أنا إذا قلنا‏:‏ لا تثبت الشفعة للجار، لان ثبوتها للشريك معلل بعلة الضرر اللاحق من التزاحم على المرافق المتخذة من المطبخ والخلاء والمطرح للتراب ومصعد السطح وغيره، فلابي حنيفة أن يقول‏:‏ هذا لا مدخل له في التأثير، فإن الشفعة ثابتة في العرصة البيضاء وما لا مرافق له، فهذا الآن عكس، وهو لازم، لانه يقول‏:‏ لو كان هذا مناطا للحكم لانتفى الحكم عند انتفائه فنقول‏:‏ السبب فيه ضرر مزاحمة الشركة فنقول‏:‏ لو كان كذلك لثبت في شركة العبيد والحيوانات والمنقولات، فإن قلنا‏:‏ ضرر الشركة فيما يبقى ويتأبد فيقول‏:‏ فلتجز في الحمام الصغير، وما لا ينقسم فلا يزال يؤاخذنا بالطرد والعكس، وهي مؤاخذة صحيحة إلى أن نعلل بضرر مؤونة القسمة، ونأتي بتمام قيود العلة، بحيث يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها، وهذا المكان أنا أثبتنا هذه العلة بالمناسبة، وشهادة الحكم لها لوروده على وفقها وشرط مثل هذه العلة الاتحاد وشرط الاتحاد العكس، فإن قيل‏:‏ ولفظ العكس هل يراد به معنى سوى انتفاء الحكم عند انتفاء العلة‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا هو المعنى الاشهر، وربما أطلق على غيره بطريق التوهم كما يقول الحنفي لما لم يجب القتل بصغير المثقل لم يجب بكبيره بدليل عكسه، وهو أنه لما وجب بكبير الجارح وجب بصغيرة، وقالوا‏:‏ لما سقط بزوال العقل جميع العبادات ينبغي أن يجب برجوع العقل جميع العبادات، وهذا فاسد لانه لا مانع من أن يرد الشرع بوجوب القصاص بكل جارح وإن صغر، ثم يخصص في المثقل بالكبير، ولا بعد في أن يكون العقل شرطا في العبادات، ثم لا يكفي مجرده للوجوب، بل يستدعي شرطا آخر‏.‏

مسألة ‏(‏هل تصح العلة القاصرة أم لا‏؟‏‏)‏

العلة القاصرة صحيحة، وذهب أبو حنيفة إلى إبطالها، ونحن نقول‏:‏ أولا ينظر الناظر في استنباط العلة وإقامة الدليل على صحتها بالايماء أو بالمناسبة أو تضمن المصلحة المبهمة، ثم بعد ذلك ينظر، فإن كان أعم من النص عدي حكمها وإلا اقتصر، فالتعدية فرع الصحة، فكيف يكون ما يتبع الشئ مصححا له‏؟‏ فإن قيل‏:‏ كما أن البيع يراد للملك والنكاح للحل، فإذا تخلفت فائدتهما قيل أنهما باطلان، فكذلك العلة تراد لاثبات الحكم بها في غير محل النص، فإذا لم يثبت بها حكم كانت باطلة لخلوها عن الفائدة، وللجواب منهاجان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن نسلم عدم الفائدة ونقول‏:‏ إن عنيتم بالبطلان أنه لا يثبت بها حكم في غير محل النص فهو مسلم، ونحن لا نعني بالصحة إلا أن الناظر ينظر ويطلب العلة‏.‏ ولا ندري أن ما سيفضي إليه نظره قاصر أو متعد، ويصحح العلة بما يغلب على ظنه من مناسبة أو مصلحة أو تضمن مصلحة، ثم يعرف بعد ذلك تعديه أو قصوره، فما ظهر من قصوره لا ينعطف فسادا على مأخذ ظنه ونظره، ولا ينزع من قلبه ما قر في نفسه من التعليل، فإذا فسرنا الصحة بهذا القدر لم يمكن جحده، وإذا فسروا البطلان بما ذكروه لم نجحده وارتفع الخلاف‏.‏ الثاني‏:‏ أنا لا نسلم عدم الفائدة، بل له فائدتان‏:‏ الأولى‏:‏ معرفة باعث الشرع ومصلحة الحكم استمالة للقلوب إلى الطمأنينة والقبول بالطبع والمسارعة إلى التصديق، فإن النفوس إلى قبول الاحكام المعقولة الجارية على ذوق المصالح أميل منها إلى قهر التحكم ومرارة التعبد، ولمثله هذا الغرض استحب الوعظ، وذكر محاسن الشريعة ولطائف معانيها وكون المصلحة مطابقة للنص، وعلى قدر حذقه يزيدها حسنا وتأكيدا، فإن قيل‏:‏ هذا إنما يجري في المناسب دون الاوصاف الشبيهة مثل النقدية في الدراهم والدنانير، وقد جوزتم التعليل بمثل هذه العلة القاصرة‏؟‏ قلنا‏:‏ تعريف الاحكام بمعان توهم الاشتمال على مصلحة ومناسبة أقرب إلى العقول من تعريفها بمجرد الاضافة إلى الاسامي، فلا تخلو من فائدة، ثم إن لم تجر هذه الفائدة في العلة الشبهية فالفائدة الثانية جارية‏.‏ الفائدة الثانية‏:‏ المنع من تعدية الحكم عند ظهور علة أخرى متعدية إلا بشرط الترجيح، فإن قيل‏:‏ تمتنع تعدية الحكم لا بظهور علة قاصرة، بل بأن لا تظهر علة متعدية، فأي حاجة إلى العلة القاصرة، وإن ظهرت علة متعدية فلا يمتنع التعليل بالعلة القاصرة، بل يعلل الحكم في الأصل بعلتين، وفي الفرع بعلة واحدة قلنا‏:‏ ليس كذلك، فإن كل علة مخيلة أو شبهية، فإنما تثبت بشهادة الحكم وتتم بالسبر، وشرطه الاتحاد كما سبق، فإذا ظهرت علة أخرى انقطع الظن، فإذا ظهرت علة متعدية يجب تعدية الحكم، فإن أمكن التعليل بعلة قاصرة عارضت المتعدية ودفعتها إلا إذا اختصت المتعدية بنوع ترجيح، فإذا أفادت القاصرة دفع المتعدية التي تساويها والمتعدية دفع القاصرة وتقاوما بقي الحكم مقصورا على النص، ولولا القاصرة لتعدي الحكم، فإن قيل‏:‏ إنما تصح العلة بفائدتها الخاصة بها، وفائدة العلة الحكم بالفرع دون حكم الأصل، فإن حكم الأصل ثابت بالنص لا بالعلة‏:‏ إنما الذي يثبت بالعلة حكم الفرع، إذ فائدتها تعدية الحكم، فإذا لم تكن تعدية فلا حكم للعلة قلنا‏:‏ قولكم فائدة العلة حكم الفرع محال، لان علة تحريم الربا في البر طعم البر، ولا تحرم الذرة بطعم البر، بل بطعم الذرة، فحكم الفرع فائدة علة في الفرع لا فائدة علة في الأصل، وقولكم‏:‏ حكمها التعدية محال، فإن لفظ التعية تجوز واستعارة، وإلا فالحكم لا يتعدى من الأصل إلى الفرع، بل يثبت في الفرع مثل حكم الأصل عند وجود مثل تلك العلة، فلا حقيقة للتعدي، ويتولد من هذا النظر مسألة وهي‏:‏ أن العلة إذا كانت متعدية فالحكم في محل النص يضاف إلى العلة أو إلى النص، فقال أصحاب الرأي‏:‏ يضاف إلى النص، لان الحكم مقطوع به في المنصوص، والعلة مظنونة، فكيف يضاف مقطوع إلى مظنون‏؟‏ وقال أصحابنا‏:‏ يضاف إلى العلة، وهو نزاع لا تحقيق تحته، فإنا لا نعني بالعلة إلا باعث الشرع على الحكم، فإنه لو ذكر جميع المسكرات بأسمائها فقال‏:‏ لا تشربوا الخمر والنبيذ وكذا وكذا، ونص على جميع مجاري الحكم لكان استيعابه مجاري الحكم لا يمنعنا من أن نظن أن الباعث له على التحريم الاسكار، فنقول‏:‏ الحكم مضاف إلى الخمر والنبيذ بالنص، ولكن الاضافة إليه معلل بالشدة، بمعنى أن باعث الشرع على التحريم هو الشدة، وقولهم‏:‏ إنه مظنون، فنقول‏:‏ ونحن لا نزيد على أن نقول‏:‏ نظن أن باعث الشرع الشدة، فلا يسقط هذا الظن باستيعاب مجاري الحكم، ولا حجر علينا في أن نصدق فنقول‏:‏ إنما نظن كذا مهما ظننا ذلك‏.‏ فإن قيل‏:‏ الظن جهل إنما يجوز لضرورة العمل، والعلة القاصرة لا يتعلق بها عمل، فلا يجوز الهجرة عليها برجم الظنون وعند هذا كاع بعض الاصحاب وقال‏:‏ إن كانت منصوصة جاز إضافة الحكم إليها في محل النص، كالسرقة مثلا، وإلا فلا، ونحن نقول‏:‏ لا مانع من هذا الظن للفائدتين المذكورتين‏:‏ إحداهما‏:‏ استمالة القلوب إلى حسن التصديق والانقياد وأكثر المواعظ على هذه الصفة ظنية، وخلقت طباع الآدميين مطيعة للظنون بل للاوهام، وأكثر بواعث الناس على أعمالهم وعقائدهم في مصادرهم ومواردهم ظنون‏.‏ الفائدة الثانية‏:‏ مدافعة العلة المعارضة له كما سبق‏.‏ خاتما لهذا الباب فيما يفسد العلة قطعا وما يفسدها ظنا واجتهادا ومثارات فساد العلل القطعية أربعة‏:‏ الأول‏:‏ الأصل، وشروطه أربعة‏:‏ الأول‏:‏ أن يكون حكما شرعيا، فإن كان عقليا فلا يمكن أن يعلل بعلة تثبت حكما سمعيا‏.‏ الثاني‏:‏ أن يكون حكم الأصل معلوما بنص أو إجماع، فإن كان مقيسا على أصل فهو فرع، فالقياس عليه باطل قطعا إن لم يكن الجامع هو علة الأصل الأول، وإن كان هو تلك العلة فتعيين الفرع مع إمكان القياس على الأصل عبث بلا فائدة‏.‏ والثالث‏:‏ أن يكون الأصل قابلا للتعليل لا كوجوب شهر رمضان وتقدير صلاة المغرب بثلاث ركعات وأمثاله، وكان هذا فاسدا من جهة عدم الدليل على صحة العلة‏.‏ الرابع‏:‏ أن يكون الأصل المستنبط منه غير منسوخ، فإن المنسوخ كان أصلا، وليس هو الآن أصلا، وليس من هذا القبيل قياس رمضان على صوم عاشوراء في التبييت، فإن من سلم وجوبه في ابتداء الاسلام وسلم افتقاره إلى التبييت لم يبعد أن يستشهد به على رمضان الذي أبدل وجوب عاشوراء، به، فإن المنسوخ نفس الوجوب وليس نقيس في الوجوب، لكن في مأخذ دلالة الوجوب على الحاجة إلى التبييت، وهذا أيضا وإن كان قريبا فلا يخلو عن نظر‏.‏ المثار الثاني‏:‏ أن يكون من جهة الفرع، وله وجوه ثلاثة‏:‏ الأول‏:‏ أن يثبت في الفرع خلاف حكم الأصل، مثاله قوله‏:‏ بلغ برأس المال في السلم أقصى مراتب الاعيان، فليبلغ بعوضه أقصى مراتب الديون قياسا لاحد العوضين على الآخر، فهذا باطل قطعا، لانه خلاف صورة القياس، إذ القياس لتعدية الحكم، وليس هذا تعدية‏.‏ الثاني‏:‏ أن تثبت العلة في الأصل حكما مطلقا، ولا يمكن أن تثبت في الفرع إلا بزيادة أو نقصان، فهو باطل قطعا، لانه ليس على صورة تعدية‏:‏ الحكم فلا يكون قياسا مثاله قولهم‏:‏ شرع في صلاة الكسوف ركوع زائد، لانها صلاة تشرع فيها الجماعة، فتختص بزيادة كصلاة الجمعة، فإنها تختص بالخطبة، وصلاة العيد، فإنها تختص بالتكبيرات، وهذا فاسد، فإنه ليس يتمكن من تعدية الحكم على وجه وتفصيله‏.‏ الثالث‏:‏ أن لا يكون الحكم اسما لغويا، فقد بينا أن اللغة لا تثبت قياسا، وتلك المسألة قطعية، وربما جعلها قوم مسألة اجتهادية، وإثبات اسم الزنا والسرقة والخمر للائط والنباش والنبيذ من هذا القبيل، فكان هذا بالمثار الأول أليق‏.‏ المثار الثالث‏:‏ أن يرجع الفساد إلى طريق العلة وهو على أوجه‏:‏ الأول‏:‏ انتفاء دليل على صحة العلة فإنه دليل قاطع على فاسدها، فمن استدل على صحة علته بأنه لا دليل على فسادها فقياسه باطل قطعا، وكذلك إن استدل بمجرد الاطراد إن لم ينضم إليه سبر، وربما رأي بعضهم إبطال الطرد في محل الاجتهاد‏.‏ الثاني‏:‏ أن يستدل على صحة العلة بدليل عقلي فهو باطل قطعا، فإن كون الشئ علة للحكم أمر شرعي‏.‏ الثالث‏:‏ أن تكون العلة دافعة للنص ومناقضة لحكم منصوص، فالقياس على خلاف النص باطل قطعا‏.‏ وكذا على خلاف الإجماع‏.‏ وكذلك ما يخالف العلة المنصوصة، كتعليل تحريم الخمر بغير الاسكار المثير للعداوة والبغضاء، وليس التعليل بالكيل من هذا الجنس، وإن دفع قوله‏:‏ لا تبيعوا الطعام بالطعام ولانه إيماء إلى التعليل بالطعم، وليس بصريح لا يقبل التأويل، وليس من هذا القبيل التعليل بعلة غير علة صاحب الشرع مع تقرير العلة المنصوصة، فإن النص على علة واحدة لا يمنع وجود علة أخرى، ولذلك يجوز تعليل الحكم بغير ما علل به الصحابة إذا لم تدفع علتهم إذ لم يكن فرض الصحابة استنباط جميع العلل‏.‏ المثار الرابع‏:‏ وضع القياس في غير موضعه، كمن أراد أن يثبت أصل القياس أو أصل خبر ا لواحد بالقياس، فقاس الرواية على الشهادة، وكذلك المسائل الاصولية العقلية لا سبيل إلى إثباتها بالاقيسة الظنية، فاستعمال القياس فيها وضع له في غير موضعه، هذه المفسدات القطعية القسم الثاني‏.‏ في المفسدات الظنية الاجتهادية التي نعني بفسادها أنها فاسدة عندنا‏:‏ وفي حقنا إذ لم تغلب على ظننا وهي صحيحة في حق من غلبت على ظنه، ومن قال‏:‏ المصيب واحد فيقول‏:‏ هي فاسد ة في نفسها لا بالاضافة إلى أني أجوز أن أكون أنا المخطئ وعلى الجملة لا تأثيم في محل الاجتهاد، ومن خالف الدليل القطعي فهو آثم، وهذه المفسدات تسع‏:‏ الأول‏:‏ العلة المخصوصة باطلة عند من لا يرى تخصيص العلة صحيحة عند من يبقى ظنه مع التخصيص‏.‏ الثاني‏:‏ علة مخصصة لعموم القرآن هي صحيحة عندنا فاسدة عند من رأى تقديم العموم على القياس‏.‏ الثالث‏:‏ علة عارضتها علة تقتضي نقيض حكمها، فاسدة عند من يقول‏:‏ المصيب واحد صحيحة عند من صوب كل مجتهد وهما علامتان لحكمين في حق المجتهدين، وفي حق مجتهد واحد في حالتين، فإن اجتمعا في حالة واحدة‏.‏ فقد نقول إنه يوجب التخيير كما سيأتي‏.‏ الرابع‏:‏ أن لا يدل على صحتها إلا الطرد والعكس وقد يقال‏:‏ ما يدل عليه مجرد الاطراد فهو أيضا في محل الاجتهاد‏.‏ الخامس‏:‏ أن يتضمن زيادة على النص كما في مسألة الرقبة الكافرة‏.‏ السادس‏:‏ القياس في الكفارات والحدود، وقد ذكرنا في هذا ما يظن أنه يرفع الخلاف‏.‏ السابع‏:‏ ذهب قوم إلى أنه لا يجوز انتزاع العلة من خبر الواحد، بل ينبغي أن تؤخذ من أصل مقطوع به، وهذا فاسد، ولا يبعد من أن يكون فساده مقطوعا به‏.‏ الثامن‏:‏ علة تخالف مذهب الصحابة، وهي فاسدة عند من يوجب اتباع الصحابة وإن كان المنع من تقليد الصحابي مسألة اجتهادية، فهذا مجتهد فيه ولا يبعد أن يقول بطلان ذلك المذهب مقطوع به‏.‏ التاسع‏:‏ أن يكون وجود العلة في الفرع مظنونا لا مقطوعا به، وقد ذكرنا فيه خلافا والله أعلم‏.‏ هذه هي المفسدات‏.‏ ووراء هذا اعتراضات مثل المنع وفساد الوضع وعدم التأثير والكسر والفرق والقول بالموجب والتعدية والتركيب وما يتعلق فيه تصويب نظر المجتهدين قد انطوى تحت ما ذكرناه وما لم يندرج تحت ما ذكرناه فهو نظر جدلي يتبع شريعة الجدل التي وضعها الجدليون باصطلاحهم فإن لم يتعلق بها فائدة دينية فينبغي أن تشح على الاوقات أن تضيعها بها، وتفصيلها وإن تعلق بها فائدة من ضم نشر الكلام ورد كلام المناظرين إلى مجرى الخصام كيلا يذهب كل واحد عرضا وطولا في كلامه منحرفا عن مقصد نظره، فهي ليست فائدة من جنس أصول الفقه، بل هي من علم الجدل، فينبغي أن تفرد بالنظر، ولا تمزح بالاصول التي يقصد بها تذليل طرق الاجتهاد للمجتهدين‏.‏ وهذا آخر القطب الثالث المشتمل على طرق استثمار الاحكام إما من صيغة اللفظ وموضوعه أو إشارته ومقتضاه ومعقوله، ومعناه فقد استوفيناه والله أعلم‏.‏